تعلمت الحذر بمفردي فكنت كلما آويت إلى فراشي في المسكن بعد عودتي من العمل أضع محفظة النقود تحت رأسي خوفا عليها من السرقة
ولكني اكتشفت أنني تعلمت الحماقة بمفردي أيضا عندما نصحت صديقي الذي يسكن إلى جواري بذلك فكانت له نصيحة سائغة لم تكلفه شيء وكانت غالية تعدل مقدار رواتب سنة كاملة ادخرتها وقد سُرقت.
وسألت نفسي عن السارق وكيف عرف مكانها وأنا لم أخبر سوى صديقي الوفي الذي طالما كنت أنصحه فيمتثل لكل ما أقول، على أية حال يجب أن أحذره كي لا يصيبه ما أصابني.
ولكي أكون أمينا فيما قلت له فهو صديق مخلص، وكثيرا ما كان يلتمس لدي النصح فأنصحه وكثيرا ما كانت المصائب تحدث في أعقاب ذلك النصح فأهرول إليه أبثه شكواي، وكان يستمع بتأثر وإذعان شديدين.
وأتيته هذه المرة وإذا بنعمة من الله وفضل قد ظهرا عليه فجأة فقد اشترى متاعا جديدا، وعندما رأيته خطر لي أمر ما فحاولت أن أصرفه عن نفسي فلم أستطع.
وسألته بكم اشتريت هذه الأشياء؟ ومتى؟
فقد كنا جلوس بالأمس ولم تخبرني بشيء، فأخذ يهون الأمر بضحكات متقطعة تتخلل كلامه. كما يفعل دائما ثم أخبرني بأثمان مشترياته فأحصيتها في نفسي فوجدتها تزيد عن الآلاف فازداد في نفسي ما يخالجها من شعور بعد ما أسكته للحظات.ثم زعم أنه اشترى تلك الأشياء منذ أيام لكنني أراها حديثة عهد بالمكان.
ثم قلت له: أحسنت صنعا في مالك فقد جئت أحذرك من مكروه أصابني
فسأل في دهشة : ماذا حدث ؟فقلت : سُرقت محفطتي
فقال في استنكار مفتعل : كيف حدث ذلك ؟!
فقلت : لا أدري
فسألني ولا زالت نبرة الاستنكار في صوته : أين كنت تضعها؟
فأجبت : تحت الوسادة وقد أخبرتك ليلة أمس أنسيت؟!!فامتقع وجهه وتبدلت ابتسامته المبالغةوقال وقد دبت إلى خديه حمرة : بلى ولكني تذكرت الآن..
فرميته بنظرة ثاقبة وقلت: برأيك من يكون السارق؟
فانحدرت قطرة عرق كانت محبوسة من أعلى جبهته إلى خده الذي ازدادت حمرته شيئاوقال : لا أعلم.. فليس من السهل أن أتهم أحدا بالسرقة وبدون دليل.فقلت : معك حق وبخاصة عندما يكون المعرَّضون للإتهام تربطنا بهم علاقة قوية كالصداقة أو الجوار مثلا..فقال في حدة مصطنعة أظنه كان يخفي خلفها توترا شديدا : بمن تشك إذن؟! وإلى من تلقي باتهامك؟!فأجبته في هدوء: الشك أمر طبيعي وحق مكفول لكل عاقل فضلا على أنه أول خطوات اليقين،
أما الإتهام فليس سهلا كما قلت ولا يحق لنا أن نبنيه على الشك وحده
فزفر في شيء من الإرتياح حاول أن يخفيه فاستدار ومشى خطوتين ثقيلتين ربما كان يستعيد بهما بعض قوته الخائرة
ثم قال : هذا صحيح لذلك لا تحاول أن تشوه صورة من حولك بادّعاءات واهية وإلا سوف تكون أنت الخاسر على كل حال لأن مجرد الإتهام يشعل الحرائق في النفوس وبه تنقلب الصداقة الحميمة إلى عداوة شديدة..
وظل كل منا يلتوي في حديثه ولا يصرح لصاحبه بدخيلة نفسه، فأنا لا أريد أن أجهر باتهامي له قبل أن أتحقق، وهو لا يريد أن يجهر بدفاعه عن نفسه وتحذيري من عاقبة هذا الإتهام كي لا يثير الشكوك حول نفسه.
ولم يأخذ الحديث بيننا شكلا مباشرا لأن المباشرة في مثل هذه الأمور محتومة النهاية فإما خصومة شديدة وإما قطيعة أبدية وكلاهما شر لمن أساء الظن في صاحبه أو لمن أساء التصرف بطعن صاحبه من الخلف والغدر به..
وانتهينا من الحديث على هذا النحو ثم تركته وتركت المكان كله وخرجت إلى الهواء الطلق أجتر من نسماته أنفاسا علها تهدئ من روعي، ومشيت وحيدا علني أعثر على شيء يدلني أو أتعثر فيه
وشرد ذهني فيما دار بيننا من الحديث واسترجعت ذكريات صداقتنا، واسترجعت تاريخ علاقتي بمن حولي ورأيت عسرا في اتهامي لأحدهم، حتى وإن اضطربت الصلة ببعضهم في يوم من الأيام ، وآثرت التمهل حتى أجد قرارا لا أتكلف من تبعاته خسارة تزيد على تلك..
وبعد وقت لا أعرف أقصر أم طال عدت إلى مسكني مترنحا بين الوساوس والظنون، وأزعم أنني استطعت أن أنام ساعة في آخر الليل ثم استيقظت على طرقات هذا الصديق وقد جاء يسأل عن الأخبار وعما إن كنت قد انتهيت إلى شيء... فلم أعطه جوابا شافيا
وقلت له: لا زلت أبحث ، وعلى كلٍ فالله يفعل ما يشاء، وقال مواسيا: هون عليك ولا تشغل بالك فالأمر لا يستحق والمبلغ كان تافها!! فقلت في استسلام المؤمن لقضاء الله: نعم.. ثم نظرت إليه في ترقب وقلت مستدركا : وما أدراك أنه تافها ؟!!!!فتلعثم وكأنه انتبه إلى شيء ثم قال: توقعت ذلك فعملك ليس بذي الأجر الوفير.. فهززت رأسي في صمت والشيء نفسه يجول بخاطري وأستعيذ بالله منه، وإن كان ما سُرق تافها على حد قوله لكنه كان كل ما عندي ، كان ثروتي وكل ما أملك .
ثم أخذ هذا الصديق يتقرب إليّ يوما بعد آخر وهكذا مرت الأيام ونسيت الأمر أو تناسيته ، ولم لا ؟ وقد استطاع صديقي أن يُذهب عني الشك بتقربه وحبه وإخلاصه ، يبدو أنني ظلمته أو أن هذا ما أردته أن يبدو..
ولكن سؤلا ملحا لا زال يتردد في ذهني ولا يتوقف عن التكرار : تُرى من الذي سرق نقودي؟! وكيف عرف مكانها ؟! وظللت أفكر في كل اتجاه يخالف ما أشعر به، وبعد زمن لم أنته إلى جواب
ولكني انتهيت إلى مجموعة من الحقائق الهامة وهي..
أولا: "دوافع الحذر ليست موقوفة على الأشياء التي نخاف منها بل هي ممتدة إلى الأشياء التي نطمئن إليها، والحذر يؤخذ من مأمنه فربما جاءت الضربة من حيث لا نتوقع"
وإذا كان الأمن يأتي من تحت الوسائد ومن أقرب الأشياء ، وإذا كان المؤتمنون هم الأصدقاء الأوفياء، فعليك إذا أن ترتقب الخطر من أولئك وهؤلاء.
ثانيا : "يأتي على المرء حين من الدهر يختار فيه أن يكون ضحية وبمحض إرادته".
ثالثا : "بعض الأسئلة التي نوجهها إلى أنفسنا تكون واضحة الإجابة لا تحتاج إلى تفكير طويل ولا إلى بحث وتنقيب".
رابعا: "عندما تتحد شواهد العقل مع الحدس القوي فغالبا يكون هو الصواب حتى وإن أوحت إلينا المظاهر بخلاف ذلك".
أخيرا : "إذا أعرض الإنسان عن كل هذا واستجاب إلى خديعة المظهر فهو بذلك قد خدع نفسه قبل أن يخدعه أحد
وتبوء في نفسه مكان الضحية عن رضا واختيار وليس على كره وإجبار".
هذه ليست قصة مسلية وإنما فكرة ضربت لها مثلا ولكنها عُرضت على غير عادة العرض فمن المعهود لدينا
هو الإفصاح عن المراد أولا ثم التقريب بالأمثلة بعد ذلك.ومن هنا نقول إإن الإعتياد في الأفكار يقيدها ويحيلها إلى شعارات فاسدة وتقاليد غير قابلة للتغيير والتجديد،
وقد تكون الأفكار غاية في السهولة لكن نمطية الإلقاء وتعسف العرض يجعل الإبطاء حليفا للعقول في فهمها.
ولو أن مثال الضحية المورود تخلي قليلا عن العادة في فهم الأشياء لتكشفت له الحقائق بدون جهد وعناء.
لذلك فإن آفة العقل هي العادة في التفكيروتكرار الفعل بكل طريقة تخالف الحدس والشعور لن يمنحك ما ترتضيه من النتائج. وذلك يعد حماقة، تماما مثلما فعل صاحب المحفظة.