حافة الهوية روحٌ مئنة بألم الفقد، مكفنة بين أوراق دفاتر قديمة، تدون أحلامها بين سطور المعاناة، سعف توقعاتها يرفرف في أفاق سماء التمني، تستمر في الركض على سرابٍ فانِ، تزداد الليالي قتامة على قلبها الرَعِش من برودة الخذلان.
بعدما انتهى العام الماضي
بسطتُ الثلاثمائة وخمسة وستين يومًا أمامي
جلست جلسة القعيد الذي كان يحتاج الرعاية؛ فلم يأبه له أحد؛ فحاول إثبات قدراته للجميع على أمل أن ينتبهوا إليه، ولكنه أدرك أن محاولة اثبات قدراته للأخرين هو في حد ذاته الفشل؛ لأنه يحتاج أن يؤمن بذاته أولًا.
جلست أتذكر فصول روايتي بحروفها المبعثرة؛ كوريقات شجر الخريف الجاف الذي فقدت فيه الكثير
فقدت شغفي، أحلامي، تساقطت بعض خصلات شعري نتيجة للأرق وانهزام خلاياي حزنًا، ولكني كنت في انتظار شتاءٍ يُغيث قلبي بمطر جبره بعد جفافٍ مُميت اعترى أضلعي.
تذكرت أيام قاسية على قلبي كالسيوف الدامية التي نهشت في جسدي كذئابٍ مفترسة، ذكريات مريرة دبل لها عقلي حزنًا، تفاقمت جراحي ونزفت ندباتها القديمة وجعًا.
تذكرت شحوب وجهي المريض يأسًا، ونسمات الهواء المُغبرة برائحة الخذلان، تذكرت ليالي كانت كالثقب الأسود الذي يبتلع ألوان الكون، ويختلس البهجة.
طوال حياتي لم أعتد على طلب الكثير، كل ما أتمناه دائمًا هو الاطمئنان، تحَرُر روحي المقيدة من تلك الأعباء التي سجنتني بداخلها وأعلنت حراستي بسَجان متذمر، نظرت لليأس الذي خيم على ملامح وجهي المريض، من خسارة أشياء كنتُ على بُعد خطوة منها ثم فقدتها؛ كأن أبسط ما يحق لي أن أشتهيه يُستحال بين يديَّ.
توالت الأحداث على قلبي، تبعثرت معها أفكاري التي تكاد تُصيبني بالجنون من حدتها، وبلا هوادة كنت أنساق صوب تلك الأفكار الذي يتخللها اليأس، وبلا لجام يقيدني الترح! احترقت الروح من مُحِبيها خذلانًا وطعنًا بالغدر في أضلع الأمل، لكن رغم ذلك علمتني الحياه كيف أتجاهل؟! لأستطيع الاستمرار؛ لكي لا ينتهي بي الأمر على حافة الإنهيار.
ولكني على يقين أن الله سيأتي بعوضٍ ينسيني قسوة الأيام؛ فما قدم قلبي إلا الأمان، وما زرع سوى الحنان؛ فحصدت بذلك آهاتٍ يغزوها الغدر، ولكني على يقين أن الجبر سيرمم صدوع الروح المرتابة، بأُناس تحويني بداخلها كأنما الجواهر؛ فظني بالله خير وما أنقذني إلا ربي، عن قوله تعالى: ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )
بعض الأشياء ننظر لها بقلوبنا، تلمع كالنجوم في سماء مخيلتنا، ننسج لها صُورًا لا مثيل لها، وإذ بنا نطمئن فنبسط أكُفَّنا، راجين تلك الخيالات البراقة في أعيننا الصغيرة؛ فإذا بنا نعود فارغين! لا نحمل سوى أشلاء التمني.
سخْرتَ عمرك للآخرين مُبتهجًا
فما وجدتَ سوى الآهاتِ والغدرِ
وبتَ تحمل من الأحلام أطنانًا
صَحوتَ على خذلانٍ من القدرِ
فما السبيل سوى الدعاء للمولىٰ
وما النجاةِ سوى بيد صاحب الأمرِ
فلا تبتئس فالخير كله آتٍ
وجزاء الصبر فرجًا إن تدري
عام مضى قد ودعنا فيه أحلامًا كانت تغزو دعواتنا، ولكن كان للقدر كلمته الحاسمة في تلاشيها، قد جرت سفينة العام الماضي إلى أرض الأحلام، وتركتنا على شاطيء التمني دون إنذار بالمغادرة.
وما لنا سوى أن نأمل في جبر الله؛ عسانا نركب السفينة القادمة ونصل لوجهتنا، عسانا نحقق أهدافنا التي كادت قريبة، وفي لمح البصر اختفت، وكأن قد كُتب علينا ألا نستريح من الركض بُرهة.
تسرق منا الأيام سنوات العمر، وتتوالى الأحداث كالبرق، صنعنا فيها ذكريات كاد يتوقف لها القلب فرحًا، وتناثرت الفراشات كالَّلآلِئُ التي لمعت لها عيوننا حبًا.
ومنها ما حولت أرواحنا إلى كهوف مُظلمة، يُزينها خيوط العنكبوت التي نُسجت من رحم المعاناة، وأفكار مميتة كانت تطرق على أبواب عقولنا دون توقف.
ولكننا على دعائنا حتى نُجبر، وسيأتي العوض غدًا كأننا لم نذق طعم المرارة أمس.