عنترة بن شداد (ينادونني في السلم: يا ابن زبيبةٍ وعند صدام الخيل.. يا ابن الأطايبِ)
بعض الناس عندما يكونون في وقت رخاء واكتفاء تجدهم يحطون من أقدار أقرانهم ويهونون من عملهم،
ثم إذا تحول الأمر إلى وقت شدة وحاجة؛ يعرفون قيمتهم ويعترفون بأهميتهم، وهذه الحالة الشاذة كأربابها شواذ العقول.
لا أجد تعبيرا محكما عنها أكثر من قول عنترة في قومه عندما ينكرون نسبه - لآل عبس - في وقت سلمهم وينسبونه إلى أمه الجارية ويعيرونه بها
ولأن عنترة كان رجلا ذا بأس شديد في القتال؛ كان إذا أتى وقت الحرب والمعمعة يمدحونه ويعترفون بنسبه لأبيه شداد كي ينفر معهم لصد عدوهم وإذا انتهى القتال عادوا إلى ما كانوا عليه من إنكار لنسبه وحطٍ من قدره
وتعييرٍ له بأمه ويظنون أن هذا المشهد الهزلي يمر على عنترة مرور الكرام، كنت سأعجب من فعل عنترة
إذا انتهى به المطاف أن يستسلم لهذا الإنكار ولكن صبره ومدارته لقومه وقوة عزيمته وما وهبه الله من فصاحة
وحسن نظم وبيان.
كل هذا جعل اسم ( عنترة بن شداد ) - وليس ابن زبيبة كما كانوا ينعتونه - خالدا في التاريخ دونهم إلى يومنا هذا
أقول: إن صبر عنترة وعزمه ومداراته لقومه دليل على أن المدارة ليست ضعغا أو قلة حيلة بل هي ذروة القوة
وأعلى درجات التحمل، ورجل كعنترة شجاع وعالم بفنون القتال ودهاليز الحرب لم يعظم عليه أن ينتقم من قومه مستخدما براعته في القتالبأن يتنحى عنهم مثلا ويصنع جيشا ويصبح قائدا يُغِير ويَسْبي ويقتل ويأْسر، ربما كان هذا انتقاما شديدا
لكنه سيكون انتقام قصير المدى، والحقيقة أن نظرة عنترة كانت أبعد من ذلك بكثيرفهو بصبره على ظلمهم ومدارته لسياستهم الشاذة ؛ كان يضربهم من جهة أخرى لم تتسع مداركهم لصدها وتفاديها
كان يمحي أثرهم.. ونسبهم من التاريخ كما محوا أثره ونسبه فيهم
كان ينشد ، ويشهد الأجيال من بعده كي يستنصر له كل ذي عقل رشيد، كان يسجل مآثره ومفاخره
وفضله عليهم بدفاعه عنهم، وهذا العنترة الشديد الصارع كانت قوته أبعد من بدنهكانت في رجاحة عقله وثقته بنفسه رغم كل مُحبط ومُثَبطْ. الآن وبعد قرون من الزمان عندما تقرأ شعر عنترة في حين أنك لا تعرف شيئا واحدا عن أقوال أبيه أو أعمامه أو أحد من أسياد قومهتعلم علم اليقين كيف نصر الله هذا القوي المظلوم الذي تصرف بفطرة الله السليمة فيه التي أقرها الإسلام بعد عنترة بعقود عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" ليس الشديد بالصُّرَعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.."
هذا هو مفهوم الشدة والقوة في الإسلام
إنني أرى الإنسان أضعف ما يكون - بمنطق الجبناء - أمام غل أي صعلوك يستطيع أن يحمل سلاحا فيضرب به على حين غفلة أو أن يشي بوشاية تشعل الحرائق في النفوس فتروح أبدانٌ عفية وتُزهق أروحٌ نقيةوأقول لهم: أيها الشداد ، العتاة ، الطغاة ، أيها الحُسّاد ، الأرذال ، سود القلوب؛ ما أضعفكم وما أقصركم عمرا في ذاكرة التاريخ..."