القوة الخفية| دعوة أمي
بقلم: مصطفي أحمد
دعوة أمي الضارعة، في سكون الليل وفي نشور النهار وأدبار الصلوات، هي كلمات في غاية البساطة يغلب عليها طابع الوهن وتلمح فيها نبرة الخوف.
ولكن تأثير تلك الكلمات ينم عن صفات مغايرة تماما لما هي عليه من الخوف والضعف، تأثير ينم عن قوة وصلابة واطمئنان، كثيرًا ما كنت أقع في أشراك الدهر وحفره.
وكنت أظن أن النهاية قد اقتربت، وفي كل مرة كنت أنجو وأخرج سالمًا من غير سوء لا أعرف كيف، أشعر بقوة تبسط يدها إلي لتخرجني من ظلمات الحفر وتحل وثاقي من حبال الأشراك وتنير لي الطريق
أكاد أجزم أن هذه القوة الخفية ما كانت إلا دعوة أمي التي تأتيني دائما بالفرج أو تأتيني على هيئة (أولاد الحلال)
وهذا ما يحدث كثيرا عندما يقع أحدنا في إشكال ثم لا يجد لنفسه حيلة فى الخروج منه ثم يجد أمامه أشخاصًا ليس له بهم سابق معرفة يمدون إليه يد العون ويساعدونه وبدون مقابل فى الخلاص من ورطته
هؤلاء الأشخاص أراهم من زاوية أخرى فوق أنهم أسوياء النفوس محبون للخير، أرى وكأن دعوة أمي تمثلت في صورة واحد من هؤلاء أصحاب المروءة والشهامة
هذه هي القوة التي أقصدها، قوة لا تمتلك أسلحة وليست لديها عضلات بارزة ولا تستطيع الفتك بذبابة
ولكنها تفعل الكثير من المعجزات وترغم الأقدار دائما على التلطف، تفعل أشياء لم تكن لتقوى عليها أشد الجيوش بطشًا.
القوة الحقيقية صعبة المنال لأنها نتيجة علم ويقين وإيمان مثل قوة (الفاروق) رضي الله عنه، لم تكن قوته مقصورة على بنيانه الجسدي ولاعلى هيبته وشجاعته
بل تجلت في زهده ورحمته بالضعفاء، قوة كان يتلحف بها كلما غفى عند الشجرة مفترشًا تحته التراب الذي هو حقيقة الإنسان المهملة في الأذهان
أو قوة مثل قوة (غاندي) هذا المسن، الأعزل من الأسلحة المزعومة والمسلح بأقوى مبادئ العدل والرحمة، كانت قوته نقية من الأذى والدماء، قوة تشبه ثيابه البيضاء، أوصلته إلى الخلود في صفحات التاريخ المضيئة
تلك هي الشجاعة والقوة في مفهومها الأسمى أما القوة المفسدة المدمرة ما هي إلا نقائص حرص الطغاة على إخفائها وجبن سعوْا إلى مواراته بأفعالهم الذميمة.
وقد اختصر (شوقي) أمير الشعراء هذا المفهوم الأسمى في بيت قال فيه: "إن الشجاع هو الجبان عن الأذى، وأرى الجريء على الشرور جبانا".
ودعوة الأم هي أقرب الأمثلة إلينا على هذه القوة السامية الخفية المكسوة بالوهن والرقة
ولا تزال دعوة الأم في نظري هي الأنسب لمعنى القوة الخفية عبر التاريخ فهناك بعض الأقوال -التي ربما يكون بها ضعف ولكنها مذكورة في كتب التراث تقول:
"أن الله عز وجل جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم بسبب لهفة أمه عليه ودعائها له، وإذا كان هذا القول ضعيفًا فلدينا من الأمثلة الكثير والكثير ما يصعب التشكيك فيه فهذه أم نبي الله ( موسى ) عليه السلام
عندما كانت في موقف من الضعف لا تحسد عليه أبدا لكن القوة الخفية كان جدير بها أن تتحالف مع أَمَة ضعيفة قليلة الحيلة لكنها قوية الإيمان مربوط على قلبها من الله
ويكون الأمر بالقياس على نبي الله ( يعقوب) وابنه نبي الله ( يوسف ) عليهما السلام حيث كان صراع القوة الخفية والقوة الظاهرة هنا صراع بين الأمل واليأس ورغم أن بشائر الأمل كانت أشد اندثارًا من مؤشرات اليأس إلا أن قوة الأمل الخفية المندثرة في نفس يعقوب قد انتصرت في النهاية
هذا المعنى الذي تحسسته في نفسي ووجدت له الشواهد في عقلي أراه دائما في دعوة أمي، وأقول بناء على ما استعرضته من الأمثلة والأدلة أنه قد ثبت لنا أن لكل إنسان قوة خفية تؤازره دائما في ما يواجه من صعوبات تخرج عن إرادته وهي قوة مجردة من السلاح والعتاد لكنها قادرة على تغيير مجرى الأمور لصالح الإنسان
ولأن لكل إنسان الحق في تفسير قواه الخفية حسب ما يشعر فقد شعرت أن القوة الخفية في حياتي هي دعوة أمي.
الدعوة التلقائية المجردة من البلاغة والفصاحة لكنها مكسوة بقبول الله عز وجل، وربما يستطيع آخر أن يرى هذا المعنى متجليًا في شيء غيردعوة الأم فما طرحته ليس قانونًا وإنما هو شعور إنساني تحلى بإطار أدبي، أختمه بنصيحة مهداة إلى القلوب
احرصوا على التشبث بقواكم الخفية فلن تروها بأعينكم ولن تلمسوها بأيديكم لكنها سوف تكون واضحة جلية أمام البصائر النيرة والأرواح الطاهرة"