حضارة بلا حكومة.. مومياء «تشانكاي» تكشف أسرار الأنديز القديمة

في واقعة أثارت اهتمام الأوساط الأثرية والعلمية، اكتشف فريق من علماء الآثار في بيرو مومياء محفوظة جيدًا تعود إلى حضارة ما قبل الإنكا، وذلك خلال أعمال حفر روتينية لمد خط أنابيب غاز في منطقة بونتي بيدرا، وهو ما أدى إلى توقف فوري لأعمال البناء وبدء تحقيق أثري شامل تحت إشراف وزارة الثقافة البيروفية.

امرأة شابة وطقوس دفن متقنة

وتعود المومياء، بحسب تقديرات الخبراء، إلى ما يزيد عن ألف عام، حيث وُجدت مدفونة داخل حزمة جنائزية تقليدية في موقع سكني، ما يشير إلى وجود طقوس وداع ودفن متقدمة كانت تمارسها الثقافات القديمة في الأنديز، وتحديدًا حضارة «تشانكاي»، التي ازدهرت على الساحل الأوسط للبلاد ما بين عامي 1100 و1400 ميلادي.

وكانت المومياء ملفوفة بعناية، ويرجح أن تعود لامرأة شابة، إذ وجدت بجانبها مجموعة من الأواني الخزفية والمواد العضوية، مثل بقايا محار محفوظة داخل قرع مجفف، في دلالة على وجود معتقدات طقسية تتعلق بالبحر والحياة الآخرة.

الأواني الجنائزية.. رموز المكانة والهوية

احتوى القبر على تسع قطع خزفية متنوعة، ضمت أباريق وقوارير مزخرفة بأنماط مميزة بالألوان الثلاثية (أسود، أبيض، وألوان أخرى)، وهي سمة مشهورة في فن تشانكاي. 

كما عُثر على أربعة قرع كالاباش، يُعتقد أنها كانت تُستخدم لحفظ مواد رمزية أو ذات طابع شعائري.

ويرى علماء الآثار أن وجود هذا العدد من المتعلقات، إضافة إلى جودة الصناعات اليدوية المكتشفة، يشير إلى أن هذه المومياء ربما كانت شخصية مرموقة داخل مجتمعها، إذ ترتبط «متعلقات القبور» عادة بمكانة الفرد ودوره الاجتماعي والديني.

ثقافة تشانكاي.. حضارة بلا حكومة مركزية

حضارة «تشانكاي» التي تنسب إليها هذه الاكتشافات، سادت الساحل الأوسط لبيرو، لا سيما في مناطق مثل وادي نهر تشانكاي وتشيون، وامتد تأثيرها إلى بلدات مثل سوبي وباتيفيلكا. 

وقد عرفت هذه الحضارة بإنتاجها الواسع للمنسوجات والسيراميك، وهو ما دعم اقتصادها المحلي ولبّى احتياجات سكانها اليومية.

ورغم هذا الاتساع، لم يتم العثور على أي دلائل توحي بوجود نظام حكم مركزي، إلا أن البنية التحتية التي خلفوها، مثل شبكات المياه والقنوات والخزانات، تدل على وجود تنظيم مجتمعي دقيق وتحالفات محلية عملت لتحقيق الأهداف المشتركة بين التجمعات السكانية.

تماثيل كوتشيميلكو.. حراس الحياة الآخرة

من أبرز رموز هذه الحضارة أيضًا، تماثيل «كوتشيميلكو» الشهيرة، وهي تماثيل طينية غالبًا ما تجسد إناثًا بأذرع مفتوحة وملامح وجه معبرة، كانت تُدفن إلى جانب الموتى في المقابر كرمز للحماية في العالم الآخر.

كما أبدع حرفيو تشانكاي في صناعة أعمدة ومنحوتات خشبية ملونة بألوان زاهية، تحتوي على ملامح بشرية ورموز دينية واجتماعية، تشير إلى معتقدات راسخة حول الحياة والموت والطبيعة.

تدخل فوري من وزارة الثقافة ووقف أعمال البنية التحتية

فور اكتشاف الموقع، أوقفت السلطات أعمال البنية التحتية الجارية، وتم تشكيل لجنة تحقيق بإشراف وزارة الثقافة، وبدأت عمليات تنقيب موسعة لإزالة أي آثار قد تكون ما زالت مدفونة في المنطقة، تحت إشراف متخصصين في الآثار والأنثروبولوجيا.

وتشارك شركة «كاليدا» للغاز، المسؤولة عن الأعمال، بالتعاون مع الجهات المختصة في أعمال البحث، مع تأكيدها احترامها الكامل للتراث الثقافي لبيرو وضرورة الحفاظ عليه.

اكتشاف قد يغيرفهمنا لتاريخ الأنديز

ووصف خبراء الآثار هذا الاكتشاف بأنه إضافة جديدة ومهمة لفهم الحضارات ما قبل الكولومبية في منطقة الأنديز، خاصة تلك التي لم يتم تسليط الضوء عليها بقدر حضارتي الإنكا أو النازكا.

ومن المتوقع أن يتم نقل المومياء والمتعلقات المكتشفة إلى متحف وطني للعرض والدراسة، حيث ستخضع للفحص الدقيق بالأشعة والفحوصات البيولوجية لتحديد عمرها بدقة والتعرف على الظروف البيئية التي ساهمت في حفظها بهذا الشكل الجيد.