رياح الذكريات.. صنية رمضان تروي لنا حكايات زمن مضى على مائدة البسطاء

بالتزامن مع حلول أيام شهر رمضان المبارك، حين تهب رياح الذكريات على أرواحنا وتغمر قلوبنا بأجواء الماضي، نجد أنفسنا نستعيد طقوسًا مميزة وعاداتٍ ما زالت تروي لنا حكايات من زمن مضى.
عادات ما زالت حية بالمناطق الشعبية
ومن أبرز هذه العادات التي ما زالت حية في بعض المناطق الشعبية والريفية والصعيدية، هي "صينية رمضان" التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالروح الطيبة للمجتمع المصري في الشهر الكريم.
كانت البيوت المجاورة للمساجد هي أول من يشعر بالواجب تجاه المصلين الذين يأتون لصلاة المغرب، فيستشعرون أن لحظات الإفطار يجب أن تكون مُفعمة بالرحمة والمشاركة.
صنية رمضان
فلا يتأخر هؤلاء القاطنون عن حمل صواني الطعام – كل حسب استطاعته – ليضعوها بين يدي عامل المسجد، الذي يبدأ فورًا في توزيع الطعام على المصلين بعد الصلاة، وكأن هذه الصواني ليست مجرد طعام، بل هي تعبير عن الإنسانية والروح المشتركة التي تزداد بريقًا في هذا الشهر المبارك.
ورغم أن الأطعمة التي كانت تقدم في هذه الصواني لم تكن فاخرة أو مكلفة، إلا أنها كانت مليئة بالحب والعطاء، غالبًا ما كانت الأطباق تتكون من خضروات مطبوخة بسيطة، خالية من اللحم، لكن ذلك لم يكن ناتجًا عن البخل أو التقشف، بل كان انعكاسًا لحال معظم البيوت في تلك الفترة، كان الجزارون يقتصرون على العمل يوم الجمعة فقط، بينما في الأيام الأخرى كان الكثير من البيوت يعتمدون على الدواجن والبط التي تربى في المنازل.
كانت تلك اللحظات أكثر من مجرد تقديم طعام، كانت رمزًا للتكافل الاجتماعي، وتعبيرًا عن المساواة في أيام رمضان المباركة، هذه الصواني التي كانت تدور بين الأيدي، لم تكن تحمل الطعام فقط، بل كانت تحمل رسالة مفعمة بالعطاء، والمحبة، والرحمة، لتظل واحدة من أبرز الذكريات التي تجعل رمضان أكثر من مجرد شهر للعبادة، بل هو شهر لتجديد الروابط الإنسانية.
ولم تكن تلك المائدة السريعة التي تُعد بعناية سوى رمز من رموز المحبة، التي تزداد إشراقًا بين قلوب البشر في أيام الخير، وتبقى هذه العادة محفورة في ذاكرة كل من عاش تلك اللحظات.
رمضان، شهرٌ يمسح الغبار عن أرواحنا ويعلمنا أن العطاء ليس في المال فقط، بل في الوقت، والمشاركة، والتضامن.
أبرز عادات المصريين مع شهر الصيام
شهر رمضان المبارك، هو سيد الشهور، فهو شهر مميزً عند المسلمين وله مكانة خاصة عن باقي شهور السنة الهجرية، ففي ليلة القدر من هذا الشهر العظيم نزل القرآن الكريم إلى الدنيا، فضلا عن أنه هو شهر الصوم الذي يعد أحد أركان الإسلام، حيث يمتنع في أيامه المسلمون عن الشراب والطعام مع الابتعاد فيه عن المحرمات من الفجر وحتى غروب الشمس.
ويحتل شهر رمضان مكانة بارزة في عادات وتقاليد المصريين على مر العصور، حيث يستقبلوه بطقوسهم الخاصة واحتفالاتهم التي تعكس تراثهم العريق، كما أنه يشهد مظاهر ومعان تجعله مختلفا عن سائر بلاد الدنيا، ففيه تتغير فيه ملامح الحياة اليومية وإيقاعها بشكل جذري بين المصريين، إذ تمتزج فيه الروحانيات الدينية بمظاهر احتفالية فريدة تنبض بالحياة .
ويتميز الشهر الكريم بالروحانية والتضامن الاجتماعي، وتشهد المدن المصرية نشاطًا كبيرًا خلال الليالي الرمضانية مع التجمعات العائلية والأصدقاء في المنازل والمطاعم، وتظهر العادات والتقاليد المصرية في التحضير لوجبات الإفطار والسحور، مع الاهتمام بالتبادل الاجتماعي والعطاء للفقراء والمحتاجين.
زينة رمضان
وتبدأ شوارع المحروسة في التحول إلى لوحات فنية مليئة بالألوان والأضواء، حيث تُعلق الزينة الرمضانية في الشوارع وعلى الشرفات، ويتنافس الأطفال في اقتناء الفوانيس المضيئة التي تُعد من أبرز رموز الشهر الفضيل.
وتكتسي المناطق الشعبية بجمال خاص خلال شهر رمضان حيث يُزين الشباب والأطفال الشوارع بالفانونس الملون والزينة الفاخرة، ويشع هذا الإضاءة المبهجة طوال الشهر الكريم، ويتبارى سكان كل شارع في اختيار الألوان والأشكال الجميلة لتجسيد أجواء الفرح والتآخي.
ويقول الدكتور محمد أحمد عبداللطيف أستاذ الآثار والحضارة الإسلامية والقبطية ومساعد وزير الآثار السابق والعميد الحالي لكلية السياحة والفنادق بجامعة المنصورة ، لوكالة أنباء الشرق الأوسط ، إن الزينة الرمضانية تعتمد على ألوان متنوعة؛ فمنها ما يأتي بألوان سادة وزاهية، ومنها ما يمزج بين العديد من الألوان المستوحاة من الأقمشة التقليدية مثل الخيامية، كما تتخذ أشكالًا متعددة مثل المثلثات والمربعات وغيرها من التصاميم الزخرفية المميزة.
حكاية زينة رمضان
وحول أصل حكاية زينة رمضان، قال أستاذ الآثار والحضارة الإسلامية والقبطية إن هذا التقليد الذي تناقلته الأجيال عبر العصور تشير بعض الروايات إلى أن الصحابي الجليل تميم بن أوس الداري كان أول من أرسى فكرة زينة رمضان، حيث اعتاد على إنارة المساجد بالقناديل كل ليلة جمعة، نظرًا لأهمية هذا اليوم عند المسلمين، أما فيما يتعلق بالاحتفال بقدوم شهر رمضان، فتشير روايات تاريخية أخرى إلى أن الخليفة عمر بن الخطاب هو أول من بادر بتزيين المساجد وإنارتها مع حلول رمضان، وذلك لتوفير الإضاءة اللازمة للمصلين وتمكينهم من أداء الشعائر الدينية خلال الليل.
وأشار إلى أن بعض الروايات تفيد بأن تزيين الشوارع بزينة رمضان بدأ خلال عهد الدولة الطولونية، حين أصدر الخلفاء أوامر بتعليق القناديل في الشوارع والمساجد احتفالًا بالشهر الكريم" ومع مرور الزمن، تطورت تصاميم الزينة الرمضانية، حيث تحولت من الأشكال الهندسية التقليدية مثل المثلثات والمربعات الملونة إلى أشكال أكثر إبداعًا، فباتت تزين بصور شخصيات ارتبطت بذكريات رمضان لدى العديد من الأشخاص، مثل الفنان فؤاد المهندس وبرنامجه "عم فؤاد"، أو الفنانتين نيللي وشريهان اللتين قدمتا فوازير رمضان الشهيرة. كما أصبحت بعض الزينة تحمل صور شخصيات بارزة في مجالات مختلفة، مثل نجم كرة القدم محمد صلاح، الذي يحظى بشعبية كبيرة في العالم العربي.
ورغم تغير أنماط الزينة بمرور السنوات، إلا أن جوهر هذا التقليد ظل ثابتًا، حيث يجمع الناس على الاحتفاء بروح رمضان عبر الأضواء الملونة والزخارف التي تضفي أجواء البهجة والفرح في مختلف الشوارع والميادين.
فانوس رمضان
تعتبر الفوانيس جزءًا أساسيًا من التقاليد والطقوس الرمضانية المصرية التي ظهرت منذ العصر الفاطمي، وكان يستخدم لإنارة الطرقات ليلا، ولكنه تحول مع مرور الزمن إلى رمز احتفالي يعكس فرحة رمضان، حيث يخرج الأطفال حاملين فوانيس رمضان في ليلة رؤيته احتفالًا بقدومه، ويستمرون كل ليلة حتى ليلة العيد، مرددين عبارات تميز بها المصرين مثل "وحوى يا وحوى، "جبنا الفوانيس أحمر وأخضر"، "حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو”، وغيرها.
وقال الدكتور محمد عبداللطيف، يعد فانوس رمضان من أهم المظاهر التي ارتبطت بأذهان المصريين منذ العصر الفاطمي، وكان يستخدم لإضاءة الطرق في الليل، والمساجد في قاهرة المعز، فأصبح الفانوس مظهرًا من المظاهر التراث للشهر الفضيل منذ عصر الدولة الفاطمية حتى الآن.
وأضاف عبداللطيف أن من أشهر الروايات التاريخية عن أسباب ارتباط الفانوس في مصر بشهر رمضان تلك الرواية التي تحدثت عن استقبال المصريين للخليفة المعزي لدين الله الفاطمي والذي تصادف قدومه مع حلول شهر رمضان، حيث قدم إلى مصر ليلا ، فاستقبله أهلها وهم يحملون المشاعل المغطاة من الجوانب، والتي رجّح البعض أنها كانت اللبنة الأولى والملهمة لفكرة الفانوس المعروف حاليا، مع تطور أشكاله من عصر إلى عصر.
وأوضح أن هناك بعض الروايات التي تشير إلى أن الحاكم بأمر الله لم يكن يسمح للنساء بالخروج من بيوتهن ليلاً إلا في شهر رمضان شرط أن يسبقهن الأطفال حاملين الفوانيس؛ لإضاءة الطريق ولتنبيه الرجال كي يبتعدوا عن طريقهن، موضحا أن فانوس رمضان شهد تطورا كبيرا في صناعته بداية من الفانوس الصفيح بالشمعة داخله، إلى الفانوس الكهربائي بالبطارية، وبالرغم من تغير أشكال الفوانيس، إلا أن عادات المصريين لا تتغير.
وفيما يتعلق بتفسير كلمتي (وحي يا وحوي) قال عبداللطيف إن الموروث الثقافي المصري غني وثري جدا وممتد ورغم اختلاف العصور التاريخية أو مرور عقائد كثيرة على مصر إلا أن هذا الموروث امتد واستمر حتى الآن، وأن التفسير الأقرب لكلمتي (وحوي يا وحوي) بحسب الروايات المتداولة فإنها مرتبطة باسم الملكة ياح حتب أم الملك أحمس والتي كان لها دور في طرد الهكسوس من مصر، وأن الشعب المصري كان يحبها وتلقى ترحابا كبيرا وكان من اسمها ياحا ياحا أو تعيش تعيش أو أقبلت.
وأضاف وفي اللهجة القبطية معنى "وحوي" أقبل أو جاء وياحا معناها الهلال أو القمر فبالتالي معنها إقبال الهلال أو القمر، وفي العصور الإسلامية كانت تشير إلى انتهاء شهر شعبان وقدوم شهر رمضان.