«فستان طرخان».. تحفة نسيجية تكشف أناقة المصريين القدماء قبل 5 آلاف عام

«فستان طرخان».. في لحظةٍ ساحرة من لحظات علم الآثار، كشفت قطعة قماش بالية وُجدت في مقبرة جنوب القاهرة عن سرٍ دفين من أسرار الحضارة المصرية القديمة. إنه «فستان طرخان»، الذي لا يُعد مجرد رداء، بل وثيقة مادية تنطق بتاريخٍ ضارب في القدم، وعنوانًا لفنٍ راقٍ في تصميم الأزياء كان حاضرًا قبل آلاف السنين.
فبحسب تقرير نشرته صحيفة GreekReporter اليونانية، يُعتبر فستان طرخان اليوم أقدم ثوب منسوج معروف في العالم، حيث يُؤرَّخ تاريخه ما بين عامي 3482 و3102 قبل الميلاد، مما يجعله سابقة تاريخية تعيد كتابة فهمنا لتطور صناعة الملابس.
اكتشاف بالصدفة.. وقيمة ظهرت لاحقًا
عُثر على الفستان داخل مقبرة طرخان الواقعة جنوب العاصمة المصرية، وذلك خلال أعمال التنقيب التي قادها عالم المصريات البريطاني الشهير فلندرز بيتري عام 1913.
ورغم ضخامة الاكتشاف، لم يتنبه العلماء إلى أهمية الثوب آنذاك، فقد كان مطويًا ضمن كومة من الأقمشة القديمة وظل لعقود محفوظًا دون دراسة دقيقة.
لكن في سبعينيات القرن الماضي، أعيد النظر في تلك القطعة داخل متحف بتري للآثار المصرية التابع لجامعة لندن، حيث بدأت تتكشف ملامح هذا الثوب الاستثنائي.
وفي عام 2016، أُجريت عليه تحاليل باستخدام مطياف الكتلة المسرّع (AMS) لتحديد عمره بدقة عبر تقنية الكربون المشع، وهو ما أكد قدمه المذهل.
تصميم يسبق عصره بآلاف السنين
الفستان، المصنوع من الكتان، يتميز بصدرية ضيقة وأكمام أنيقة وألواح أمامية مطوية بدقة متناهية، وهي عناصر تُظهر إتقانًا لافتًا في تقنيات الخياطة.
ووفقًا لعلماء الآثار، فإن هذا التصميم المعقد يكشف أن تقاليد صناعة الملابس المفصّلة كانت راسخة قبل أكثر من 5 آلاف عام.
وترجّح التحليلات أن الفستان كان مملوكًا لامرأة ذات مكانة اجتماعية رفيعة، ربما أرستقراطية أو من أفراد الأسرة الملكية، فالشكل والهيئة يشيران بوضوح إلى أنه لم يكن مجرد لباس وظيفي، بل رمز للذوق والمكانة.
معجزة حفظ نادرة
تُعدّ نجاة فستان طرخان من الفناء الطبيعي إنجازًا نادرًا بحد ذاته، فمعظم المنسوجات العضوية من تلك العصور لم تصمد أمام الزمن.
وتقول أليس ستيفنسون، أمينة متحف بتري، إن بقاء هذا الثوب في حالة شبه كاملة يُعد من المعجزات الأثرية، مضيفة أن «رؤية قطعة ملابس بهذا القِدم تمنح الناس إحساسًا ملموسًا بعراقة الحضارة المصرية وطول عمرها الاجتماعي والثقافي».
وتُعرض القطعة اليوم في قاعة مخصصة داخل المتحف بلندن، وتستقطب اهتمامًا واسعًا من الزوار والباحثين المهتمين بتاريخ الأزياء والأنثروبولوجيا.
سبق عالمي على كل الحضارات
رغم اكتشاف قطع قماش في مواقع تعود إلى العصر الحجري الحديث في مناطق مثل سويسرا أو وادي السند، إلا أن أيًا منها لا يُضاهي فستان طرخان من حيث درجة الاكتمال أو تعقيد الصنع.
إذ كانت معظم الأقمشة المبكرة عبارة عن شرائط أو نسج بسيط، تفتقر إلى الطي والتصميم الهيكلي، بينما يبرع فستان طرخان في إظهار تقنيات متقدمة كالتكسير والخياطة الدقيقة للحصول على مقاس محدد.
وهذا يضع الحضارة المصرية القديمة في طليعة المجتمعات التي طورت فنون الخياطة وتفصيل الأزياء، في وقت كانت فيه الحضارات الأخرى بالكاد تخطو خطواتها الأولى في هذا المضمار.
انعكاس للذوق والمكانة والاقتصاد
لا يُجسّد هذا الفستان تطور التكنولوجيا فحسب، بل يُعطي أيضًا لمحة عن القيم الجمالية والاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك.
فقد كانت الملابس أكثر من مجرد غطاء للجسد، بل وسيلة للتعبير عن الهوية والمكانة، ودليل على تمايز اجتماعي وطبقي في وقت مبكر جدًا من تاريخ البشرية.
وتشير التفاصيل الدقيقة للفستان إلى وجود مجتمع متقدم اقتصاديًا واجتماعيًا، لديه القدرة على دعم الحرفيين المتخصصين، وتقدير الفنون والسلع الفاخرة.
إرث نسيجي خالِد
يُعيد فستان طرخان رسم الصورة التي نحملها عن المصريين القدماء، لا كمجرد بناة للأهرامات أو نحاتين بارعين، بل كمصممين ذوي حسٍ فني متقدّم سبق زمانه بقرون، وتبقى هذه القطعة الرائعة شاهدًا على ذوق مصري قديم لا يزال يُلهم حتى اليوم.