ذكراها الـ91.. كواليس الإذاعة المصرية وعبارة «هنا القاهرة» التي غيرت تاريخ الإعلام

تمر اليوم، الجمعة، الذكرى الـ91 لانطلاق الإذاعة المصرية، حيث انطلقت في 31 مايو عام 1934، لتُسجّل لحظة فارقة في تاريخ الإعلام العربي، بعد أن صدح الأثير بجملة صارت أيقونة: «هنا القاهرة».
لكن ما لا يعرفه كثيرون هو كواليس تلك اللحظة، وما جرى في الأيام والساعات التي سبقتها من تحضيرات ومواقف وكواليس ظلّت لعقود بعيدة عن الأضواء.
من شارع علوي بدأت الحكاية
بحسب ما ورد في كتاب «تراث مصر» للكاتب أيمن عثمان، فقد تأسست أول إذاعة رسمية مصرية داخل شقة بسيطة مكونة من ثلاث غرف بشارع علوي بوسط القاهرة.
وكان يديرها آنذاك البريطاني «مستر فيرجسون» الذي تولّى إدارة الإذاعة بمعاونة اثنين من البريطانيين، في وقت كانت فيه مصر لا تزال تخضع لنفوذ الاحتلال الإنجليزي.
ورغم أنها إذاعة مصرية، إلا أن السيطرة البريطانية كانت واضحة، ليس فقط من خلال الإدارة، بل في توجيه المحتوى أيضًا.
فقد مُنع الضيوف من الحديث عن القضية المصرية، وكانت البرامج تخضع لرقابة مشددة من قبل «قلم الدعاية» التابع للسفارة البريطانية.
فريق العمل الأول.. مذيعون بثلاث لغات
ضمّ فريق العمل الأول بالإذاعة عددًا من الرواد، أبرزهم أحمد سالم، الذي عُيّن كبيرًا للمذيعين، إلى جانب محمد كمال سرور ومحمد فتحي.
وكان كل مذيع يقرأ النشرات الإخبارية بثلاث لغات: العربية، الإنجليزية، والفرنسية، وهو ما دفع إدارة الإذاعة إلى إرسالهم على نفقتها الخاصة إلى مدارس لغات لتقوية مهارات النطق السليم.
لكن دورهم لم يكن يقتصر على قراءة النشرات. فكان المذيع هو من يتواصل مع الضيوف، ويحرّر العقود، وينسّق البرامج، بل ويضطر أحيانًا لتغطية زملائه في حال المرض أو الغياب، حيث يذيع السهرة ويبيت ليفتتح البث صباحًا.
من «آلو.. آلو» إلى «هنا القاهرة»
في تمام الخامسة والنصف مساء يوم 31 مايو 1934، انطلق البث الإذاعي الرسمي للحكومة المصرية، بصوت المذيع محمد كمال سرور الذي قال: «آلو.. آلو.. هنا الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية».
لكن بعد وقت قصير، وتحديدًا في اليوم نفسه، قرّر المذيع محمد فتحي تعديل العبارة لتصبح «هنا القاهرة»، وهي الجملة التي صارت فيما بعد جزءًا لا يتجزأ من الوجدان المصري والعربي.
وكانت الإذاعة في بدايتها محدودة النطاق، لا يتجاوز صداها محافظة أسيوط، لكنها سرعان ما توسعت وانتشرت في ربوع البلاد، ثم في المنطقة العربية.
الشيخ رفعت.. والفتوى التي مهدت للصوت الإيماني الخالد
رغم أن تلاوة القرآن الكريم كانت جزءًا رئيسيًا من البروجرام الافتتاحي للإذاعة، إلا أن الأمر لم يكن سهلاً مع الشيخ محمد رفعت، الملقب بـ«قيثارة السماء»، الذي رفض في البداية التلاوة عبر الميكروفون، خوفًا من أن يكون في ذلك مخالفة شرعية.
حاول مستشار البرامج العربية محمد سعيد لطفي إقناعه دون جدوى، فلجأ الشيخ رفعت لاستشارة الشيخ السمالوطي من هيئة كبار العلماء، الذي أفتى بجواز الأمر، ومع ذلك ظل الشيخ مترددًا، حتى قرّر مقابلة شيخ الأزهر حينها، محمد الأحمدي الظواهري.
وكان رد الشيخ الظواهري حاسمًا وقاطعًا، حين قال له: «أنا اشتريت امبارح راديو علشان أسمعك انت»، فاطمأن قلب الشيخ رفعت، ووافق على المشاركة في الافتتاح، ليرتفع صوته العذب بتلاوة خاشعة من آيات الذكر الحكيم في أول يوم بث.
برنامج اليوم الأول.. ما بين القرآن والسياسة
البروجرام الافتتاحي للإذاعة في يومها الأول كان بسيطًا لكنه معبّر. بدأ بتلاوة من الشيخ محمد رفعت، ثم ألقى أحمد سالم كلمة رئيس الوزراء عبد الفتاح باشا يحيى، وخُتمت الفقرة بكلمة من مستر فيرجسون.
كانت هذه البداية بداية عصر جديد، ليس فقط في مصر، بل في العالم العربي كله، إذ ألهمت التجربة الإذاعية المصرية باقي البلدان لإنشاء إذاعاتها، كما لعبت دورًا محوريًا في تشكيل الوعي العام، وبث الثقافة والفن والمعلومة.
إرث خالد.. وصوت لا يزال يصدح
ومع مرور 91 عامًا على الانطلاق، لا تزال جملة «هنا القاهرة» تتردد في آذان الأجيال، شاهدة على إرث إذاعي وإعلامي عريق، زرع البذرة الأولى في أرض الإعلام العربي، وسقاه رجال صدقوا ما عاهدوا عليه.
ومن شقة بسيطة في شارع علوي، خرج صوت قاهرة المعز ليُعلن ميلاد صوت جديد، سلاحه الكلمة، وأداته الميكروفون، وشريكه الأوفي جمهور أحبها من اللحظة الأولى.