معنى قوله تعالى «إليه يصعد الكلم الطيب» ودلالاته
الكلم الطيب هو من أرفع ما يصعد إلى الله تعالى، وقد ورد في القرآن الكريم قوله سبحانه ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ ليؤكد أن الأعمال والأقوال الصالحة لا تضيع عند الله بل ترتفع إليه بمعنى الرفعة والمكانة، لا بمعنى الحركة أو الجهة، وقد تساءل كثير من الناس عن معنى هذه الآية الكريمة وهل تفيد إثبات «جهة معينة لله تعالى»، فجاءت «دار الإفتاء المصرية» لتوضح أن المقصود بـ الكلم الطيب في هذه الآية هو القول الصالح والعمل الصالح الذي يرفع صاحبه عند الله منزلة وكرامة.
معنى قوله تعالى «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ»
أوضحت دار الإفتاء أن المقصود بالصعود في قوله تعالى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ لا يعني صعودًا حسيًا أو انتقالًا مكانيًا، فالله سبحانه وتعالى «منزَّه عن المكان والجهة» لأن المكان مخلوق من مخلوقاته، وإنما المراد بالصعود هو «علو المكانة ورفعة المنزلة» عند الله تعالى، أي أن القول الطيب والعمل الصالح يكتسبان قبولًا وشرفًا في ميزان الله عز وجل، أما المعنى الآخر الذي يمكن فهمه فهو أن الصعود يكون إلى المواضع المشرفة من مخلوقات الله مثل السماء أو مواضع الكرامة.
ويُستشهد هنا بما قاله الإمام بدر الدين بن جماعة الشافعي في كتابه «إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل»، إذ أكد أن كل ما ورد في القرآن من ألفاظ مثل «يصعد» أو «يرفع» أو «يعرج» لا يُفهم منها جهة حسية بل يُفهم منها معنى «علو الرتبة والمنزلة»، وضرب مثلًا بقوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ أي إلى محل الكرامة لا إلى جهة علو مكاني.
الكلم الطيب ومكانته في ميزان الله
يؤكد العلماء أن الكلم الطيب يشمل جميع الأقوال الصالحة مثل التسبيح والذكر والدعاء والصدق في الحديث، وهذه الأقوال حين تصدر من القلب المخلص تصعد إلى الله فينال صاحبها «قبولًا ورفعة»، كما أن العمل الصالح يعزز هذا الصعود ويقويه، كما قال المفسرون «العمل الصالح يرفع الكلم الطيب» أي أن الأعمال تدعم الأقوال وتثبتها عند الله، فالقول بلا عمل لا قيمة له، والعمل الصالح بلا نية طيبة لا يُقبل.
إن الكلم الطيب هو رمز للإيمان الحق وللنية الخالصة، فكل كلمة صادقة وكل ذكر لله وكل دعاء مخلص هو بمثابة رسالة نورانية ترفع مكانة العبد في الدنيا والآخرة، ولهذا كان من أعظم ما يصعد إلى الله هو «ذكره سبحانه بلسان طاهر وقلب خاشع»، كما قال النبي ﷺ «الكلمة الطيبة صدقة».
نفي الجهة والمكان عن الله تعالى
أكدت دار الإفتاء أن الصعود المذكور في قوله تعالى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ لا يعني أن لله تعالى جهة معينة أو مكانًا، لأن الله سبحانه «كان ولا مكان»، ثم خلق المكان وهو الآن كما كان قبل أن يخلق الخلق، فلا تحويه جهة ولا تحده المسافات، وقال الإمام الثعلبي إن دنو العبد من الله يكون «بالرتبة والمنزلة والمكانة لا بالمسافة»، لأن المسافة إنما هي للأجسام، والله سبحانه وتعالى «منزَّه عن مشابهة المخلوقات».
ويؤكد الإمام القرطبي في تفسيره أن معنى الصعود والعروج هو «العلو في المنزلة والقدر»، وليس المقصود انتقالًا فيزيائيًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن وهو في سدرة المنتهى أقرب إلى الله من يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت، وهذا دليل على أن الله «ليس في جهة»، بل هو سبحانه قريب من عباده بعلمه وقدرته ورحمته.
الكلم الطيب في ضوء أقوال العلماء
قال الإمام بدر الدين بن جماعة إن إثبات الجهة لله تعالى أمر محال لأن الله «منزَّه عن حدود المخلوقين»، وإن تأويل الآيات التي فيها ذكر الصعود أو العروج واجب بما يتفق مع التنزيه، فمعنى قوله تعالى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ هو أن القول الصالح يُرفع إلى محل رضاه ومشيئته، أي أن الله يتقبله ويجازي عليه بالثواب.
كما قال الإمام القسطلاني في «إرشاد الساري» عند شرحه لحديث زينب بنت جحش «إن الله أنكحني في السماء»، إن المقصود بقولها «في السماء» هو «علو القدر والمنزلة» لا أن الله في مكان ما، فالمقصود بالعلو هنا «رفعة الشأن الإلهي وتنزيهه عن الحد والمكان»، وهذا هو عين ما تشير إليه الآية الكريمة عن الكلم الطيب.
موقف العلماء من إثبات الجهة
وقد صنف العلماء قديمًا وحديثًا كتبًا مطولة في الرد على من يثبت لله جهة أو مكانًا، وخصص الإمام البخاري بابًا في صحيحه بعنوان «باب قول الله تعالى تعرج الملائكة والروح إليه» و«إليه يصعد الكلم الطيب»، ليؤكد أن هذا العروج والصعود ليس انتقالًا مكانيًا بل هو «علو في الشرف»، كما أوضح الحافظ ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري أن هذه الآيات «لا تُفهم على ظاهرها الحسي»، لأن الله ليس بجسم ولا يحتاج إلى مكان.
وبيّن ابن بطال أن الكلم عرضٌ من الأعراض، والعرض لا يصح أن يصعد بنفسه لأن من شرط الصعود أن يكون للفاعل حياة وقدرة، ولذا فإن المقصود أن «الملائكة تصعد بالكلم الطيب»، أي أن الله سبحانه يجعل من الملائكة وسائط لحمل هذه الأقوال الطيبة إلى موضع القبول في عالم الغيب، وكل ذلك من باب المجاز والتوسع في اللغة لا من باب الحقيقة الحسية.
المعنى الروحي للكلم الطيب
إن الكلم الطيب في جوهره هو انعكاس لنقاء القلب وصفاء النية، فالكلمة التي تخرج من قلب صادق تصعد لتنال رضا الله، بينما الكلمة الخبيثة لا ترتفع لأنها خالية من الإخلاص، كما قال تعالى ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾، فالكلمة الطيبة تُثمر خيرًا وبركة في الأرض والسماء، وهي مفتاح للرضا الإلهي، وكلما أكثر العبد من الذكر والدعاء الصادق زادت مكانته وارتفعت درجته عند الله تعالى.
ولهذا يدعو العلماء الناس إلى الإكثار من الكلم الطيب في حياتهم اليومية، لأن الكلمة قد تكون سببًا في دخول الجنة، كما أن الكلمة السيئة قد تكون سببًا في الهلاك، والكلم الطيب لا يقتصر على الذكر فقط بل يشمل كل ما يُقال بنية الخير كالنصح والدعاء والتشجيع، فالله يحب اللسان الصادق والقلب النقي.
إن الكلم الطيب ليس مجرد لفظ بل هو «منهج حياة»، يعبر عن صفاء الإيمان وحسن النية، ومعنى قوله تعالى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ هو بيان لكرامة القول الحسن عند الله، فالصعود هنا «صعود مكانة لا صعود جهة»، والله سبحانه «منزَّه عن المكان والانتقال»، بل هو القريب من عباده بعلمه ورحمته، وعلى المسلم أن يحرص على أن تكون كلماته طيبة صادقة لأنها تعكس قلبًا طيبًا يرفع صاحبه إلى أعلى الدرجات.



