مشروب من صواريخ الغواصات.. القصة الكاملة لـ «عصير الطوربيد» في الحرب العالمية

«عصير الطوربيد».. في خضم الحروب، لا تسير الأمور دومًا على وتيرة طبيعية، فالحياة على جبهات القتال لها إيقاعها الخاص، وتفاصيلها اليومية التي قد تبدو للبعض غير مألوفة، بل وغريبة في بعض الأحيان.
ومن بين هذه التفاصيل التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، يبرز مشروب عرف بين الجنود باسم «عصير الطوربيد».. فما هو هذا المشروب؟ وكيف نشأ؟ ولماذا كان مرتبطًا بالسلاح؟
مصطلحات من رحم الحرب
في زمن الحرب العالمية الثانية، ظهرت لغة خاصة بالجنود والجيوش، لغة يومية تداخلت فيها الضرورة العسكرية مع ظروف المعيشة القاسية.
فمثلًا، كانت «علبة الحليب» تُعرف بـ«البقرة المدرعة»، و«البرقوق المجفف» الذي كان يُرسل كثيرًا في طرود الصليب الأحمر إلى الأسرى، كان يُطلق عليه اسم «فراولة الجيش».
أما القهوة، فكانت تُسمى «حمض البطارية»، في دلالة ساخرة على مذاقها الحاد وقوة تأثيرها. ومن بين هذه التسميات، ظهر مصطلح غريب ومثير: «عصير الطوربيد»، الذي لم يكن مجرد نكتة عابرة، بل مشروب حقيقي كان يُستهلك بين الجنود.
«توربيدو تيسي».. البداية من أعماق البحر
«عصير الطوربيد» أو «توربيدو تيسي» لم يكن مشروبًا عاديًا، بل كوكتيلًا مرتجلًا اخترعه الجنود باستخدام مكونات لم تخطر على بال أحد. فطوربيدات البحرية في ذلك الوقت كانت تعمل بالإيثانول، وهو كحول بنسبة تركيز عالية جدًا تصل إلى 90% (180 درجة)، وكان هذا النوع من الوقود بمثابة كنز مخبأ للجنود الراغبين في كسر الروتين أو الهروب المؤقت من ضغوط الحرب.
جيم نيريسون، وهو أحد المحاربين القدامى ومشغلي الطوربيدات في الحرب، روى تفاصيل استخدام هذا الوقود كمصدر للكحول، في تصريحات لصحيفة Anchorage Daily News قائلاً: «الطوربيد لم يُستخدم بالكامل في المعركة، وكنا نأخذ منه قليلًا ونشربه».
وصفة مرتجلة ولكن فعّالة
لم يكن «عصير الطوربيد» قائمًا على وصفة دقيقة، بل كان يُعد وفقًا لتقديرات الجنود، حيث كانوا يخلطون كمية من وقود الطوربيد بالإيثانول مع عصير الفاكهة المتاح لديهم، وغالبًا ما كان عصير الأناناس هو المفضل، بينما استخدم البعض عصائر الحمضيات مثل البرتقال، أو الليمون، أو الجريب فروت.
النسب المعتادة كانت تتراوح بين جزء واحد من الوقود إلى ثلاثة أجزاء من العصير، أو في بعض الأحيان جزئين من الوقود مقابل ثلاثة أجزاء من العصير، ما يجعل هذا المشروب قوي التأثير إلى حد كبير.
محاولات لمنع الظاهرة
مع تزايد انتشار هذه الظاهرة بين الجنود، أدركت البحرية الأمريكية خطورة الموقف، ليس فقط لأن الوقود كان مخصصًا للطوربيدات، بل أيضًا لما يمثله من خطر صحي مباشر على حياة الجنود.
وهنا، لجأت القيادة إلى خطة جديدة: إضافة مواد سامة إلى الوقود لجعله غير قابل للاستهلاك الآدمي.
وكان أول تلك المواد هو مركب يُعرف باسم «بينك ليدي»، وهو مزيج من الميثانول السام مع صبغة حمراء تنبه المستخدم إلى خطورة المحتوى.
ورغم ذلك، لم تنجح تلك الإضافة في إيقاف الظاهرة، فسرعان ما بدأ الجنود في ابتكار طرق لتقطير وتنقية الوقود من المادة السامة.
لاحقًا، اتجهت البحرية إلى تصنيع وقود الطوربيد باستخدام زيت الكروتون، وهو أقل سمّية لكنه يتميز بطعم مر وكريه للغاية، ما جعله وسيلة ردع طبيعية، لكن حتى هذا لم يمنع البعض من المحاولة.
الكحول في زمن الحرب.. احتياج نفسي لا ترف
ربما تبدو فكرة استخدام وقود الطوربيد كمصدر للكحول طريفة أو مستغربة من منظورنا اليوم، لكنها في سياق الحرب كانت تعبيرًا صريحًا عن الاحتياج النفسي الهائل للجنود، الذين يعيشون في ظروف شديدة القسوة، بعيدًا عن أهلهم، وسط تهديد الموت الدائم.
ولم يكن «عصير الطوربيد» إلا وسيلة للهروب المؤقت من هذا الضغط، كما أنه يعكس قدرة الإنسان على الابتكار حتى في أحلك اللحظات.
إرث غريب من ماضٍ دموي
مع انتهاء الحرب، اندثرت هذه الظاهرة بالطبع، لكن بقيت كحكاية فريدة ضمن ما يُعرف بـ«طرائف الحرب»، وأصبحت تروى اليوم في الكتب والمقابلات الصحفية مع قدامى المحاربين، كدليل على كيف يمكن للحرب أن تخلق عوالم موازية ولغات بديلة وأسلوب حياة مختلف.
ورغم مرور العقود، فإن «عصير الطوربيد» يبقى شاهدًا غريبًا على أن الإنسان، حتى في قلب الجحيم، يبحث دومًا عن لحظة طعم مختلف.