تحفة من الطين تسرق الأنظار في المتحف المصري

وسط كنوز لا تقدر بثمن، يحتضن المتحف المصري بالقاهرة نموذجًا فنيًا بسيطًا في شكله، عميقًا في دلالاته، لسمكة مصنوعة من الطين المحروق، ضمن مجموعة منحوتات التيراكوتا الفريدة التي تسلط الضوء على أحد أوجه الفن والحياة في مصر القديمة.
وتتميز هذه القطعة بجمالها الهادئ وتفاصيلها الدقيقة، حيث تم تشكيلها يدويًا من الطين الطبيعي، ثم خضعت لعملية حرق خاصة في الأفران القديمة لإكسابها الصلابة والمتانة، في أسلوب فني يعود إلى قرون بعيدة، يُعرف باسم «التيراكوتا».
التيراكوتا: فن الطين المحروق الذي صمد عبر العصور
يشير مصطلح "تيراكوتا" إلى الطين المحروق، وهو أحد أقدم وأشهر الخامات التي استخدمها الإنسان القديم في فنون النحت والزخرفة، ويُعرف بلونه الترابي الدافئ، وسهولة تشكيله وزخرفته سواء يدويًا أو باستخدام القوالب.
وتنوعت استخدامات التيراكوتا في مصر القديمة بين الأعمال الفنية والمنحوتات الدينية، وأدوات الحياة اليومية، وحتى عناصر البناء والزينة المعمارية، ويُعد نموذج السمكة المعروض بالمتحف خير دليل على المهارة اليدوية والدقة الفنية التي تميز بها الفنان المصري القديم.
المتحف المصري.. سردية كاملة لتاريخ أمة
يُعد المتحف المصري بالتحرير من أهم وأشهر المتاحف الأثرية في العالم، إذ يضم بين جدرانه أكثر من 170 ألف قطعة أثرية توثق التاريخ المصري من عصور ما قبل التاريخ وحتى نهاية العصر الفرعوني، مع بعض الإضافات من الآثار اليونانية والرومانية.
ويتكون المتحف من طابقين رئيسيين، خُصص الطابق الأرضي منهما للقطع الضخمة والثقيلة مثل التوابيت الحجرية، والتماثيل، واللوحات الجدارية، والنقوش المعمارية، بينما يحتوي الطابق العلوي على القطع الأصغر حجمًا والأكثر تنوعًا مثل المخطوطات، المومياوات، تماثيل الأرباب، أواني العصر اليوناني الروماني، وآثار الحياة اليومية، وهو الطابق الذي يحتضن نموذج السمكة الطينية ومنحوتات التيراكوتا الأخرى.
من ما قبل التاريخ إلى حضارة الفراعنة
يأخذ المتحف زواره في رحلة بانورامية عبر آلاف السنين من التاريخ، حيث تبدأ المقتنيات بعصور ما قبل التاريخ مرورًا بعصر التوحيد، والدولة القديمة والوسطى والحديثة، وحتى العصر المتأخر، ويضم أيضًا بعض القطع الفريدة من الحقبة البطلمية والرومانية في مصر.
ومن أبرز المقتنيات التي تجذب الزوار:
- مجموعة من الأواني الفخارية من عصور ما قبل التاريخ.
- صلاية نعرمر التي تؤرخ لتوحيد القطرين.
- تمثال الملك زوسر مؤسس الدولة القديمة.
- تماثيل ملوك الأسرة الرابعة: خوفو، خفرع، منكاورع.
- تمثال كاعبر الشهير «شيخ البلد»، وتماثيل الخدم من الأسرة الخامسة.
- تمثال القزم سنب، وتماثيل الأسرة 11 والـ12، مثل أمنمحات الأول والثاني والثالث.
- تمثال الكا الشهير للملك حور.
- تماثيل الملكة حتشبسوت والملك تحتمس الثالث.
- المجموعة الذهبية لتوت عنخ آمون والتي تضم أكثر من 5000 قطعة فاخرة.
- كنوز مدينة تانيس من العصر المتأخر.
- عدد كبير من المومياوات الملكية التي توثق تطور فن التحنيط.
أهمية مقتنيات التيراكوتا في دراسة الحضارة
رغم بساطة موادها، تُعد منحوتات التيراكوتا وثائق أثرية بالغة الأهمية، إذ تقدم نظرة نادرة على تفاصيل الحياة اليومية، والمعتقدات الشعبية، والرموز الثقافية لدى المصريين القدماء.
ويُعتقد أن نموذج السمكة الطينية المعروض في المتحف، قد يكون رمزيًا أو زخرفيًا، وربما كان يستخدم في طقوس معينة أو ضمن مقتنيات منزلية.
ويشير المؤرخون إلى أن السمك كان يُمثل في بعض الأحيان رمزًا للخصوبة أو الوفرة في مصر القديمة، ما يضيف بعدًا رمزيًا لهذه القطعة الفريدة.
المتحف المصري.. ليس مجرد موقع أثري
لا يمثل المتحف المصري مجرد معرض للآثار، بل يُعد مركزًا علميًا وتعليميًا وثقافيًا، إذ يُنظم العديد من الفعاليات وورش العمل والمعارض المؤقتة والمحاضرات التي تساهم في نشر الوعي بالتاريخ المصري والحفاظ على تراثه.
كما يشكل المتحف وجهة أساسية للباحثين والدارسين من جميع أنحاء العالم، لما يحتويه من وثائق أصلية ومصادر لا مثيل لها لدراسة الحضارة الفرعونية.
إرث لا يُنسى.. وسياحة لا تتوقف
ما بين القطع الذهبية والأقنعة الجنائزية، والتماثيل الضخمة والمومياوات، ومنحوتات الطين البسيطة مثل السمكة الصغيرة، يروي المتحف المصري قصة حضارة عظيمة ما تزال تبهر العالم حتى يومنا هذا، ويظل المتحف شاهدًا على عبقرية المصري القديم، ومركزًا ثقافيًا وسياحيًا يحظى بمكانة عالمية.