الفتنة الكبرى.. حين انقلبت الأمصار على عثمان وانفجرت أول شرارة تمزق الأمة

ما زالت الفتنة الكبرى التي وقعت في النصف الثاني من خلافة الصحابي الجليل عثمان بن عفان، رضي الله عنه، واحدة من أكبر الأزمات التي أثرت في التاريخ الإسلامي، ومثّلت مفترق طرق هائلا بين عهد الخلافة الراشدة وبداية الفوضى السياسية التي أعقبتها.
ففي عام 35 هجريًا، بدأت إرهاصات هذه الفتنة تتشكل في الكوفة، ثم امتدت إلى سائر الأمصار الإسلامية، حتى وصل الأمر إلى حصار المدينة المنورة، ثم قتل الخليفة عثمان وهو يتلو القرآن في بيته، بعد أن رفض الدفاع عن نفسه بالسلاح، وفضّل التسامح والعفو، رغم الخطر المحدق.
بداية الغضب في الأمصار
بحسب ما يورده الكاتب محمد حسين هيكل في كتابه «عثمان بن عفان بين الخلافة والملك»، فإن البداية جاءت حين ظهرت حركات استياء منظمة في الكوفة والبصرة ومصر، نتيجة التغيرات في سياسات الحكم، وتولية بعض الولاة الذين لم يرض عنهم أهل الأمصار.
وبدأت التحركات تأخذ طابعا سياسيًا صارخا، إذ أرسل أهل مصر وفدًا كبيرًا إلى المدينة المنورة، بدعوى مناقشة عثمان في بعض السياسات والمطالب.
لكن الحقيقة كانت غير ذلك، إذ كشف رجال أرسلهم عثمان للقاء الوفد أن نيتهم كانت خلع الخليفة بالقوة، أو قتله إن رفض.
ومع ذلك، رفض عثمان اتخاذ أي إجراء عنيف ضدهم، وقال كلمته الشهيرة: «اللهم سلمهم، فإنك إن لم تسلمهم شقوا».
خطبة في المسجد النبوي وشهادات الصحابة
وفي محاولة لاحتواء الأزمة، دعا الخليفة عثمان المسلمين إلى صلاة جامعة في المسجد النبوي، وألقى خطبة مؤثرة، رد فيها على كل التهم التي وجهت إليه، بحضور عدد كبير من الصحابة، من بينهم علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام.
فند عثمان الادعاءات التي وجهها الثوار، موضحا أنه لم يرتكب جورًا ولا انحرافًا، مؤكدًا أن ما أُعطي لأهل بيته من ماله الخاص، وأنه لم يستحل درهما من بيت مال المسلمين.
كما أشار إلى أن من سبقوه كأبي بكر وعمر استخدموا ولاة صغار السن، ولم تُثر حولهم مثل هذه الضجة.
ورغم أن الحاضرين في المسجد طالبوا الخليفة بقتل قادة الفتنة، إلا أن عثمان تمسك بالعفو، وأصر على عدم إراقة الدماء، ليضرب بذلك أروع الأمثلة في ضبط النفس والرحمة.
المؤامرة تتجدد
بعد هذه الخطبة، عاد وفد مصر إلى بلادهم، ومعهم وفود من الكوفة والبصرة، لكنهم سرعان ما تظاهروا بالحج، ثم كروا عائدين إلى المدينة المنورة، وفرضوا حصارًا على بيت عثمان. واتهم أهل مصر الخليفة بأنه بعث معهم رسولًا برسالة سرية إلى والي مصر تأمر بقتلهم، وهي التهمة التي نفاها عثمان جملة وتفصيلًا، مؤكدًا أن الرسول انطلق من داره دون علمه، وأن الخاتم المستخدم مزور.
عندها اشتد الخطر، وبدأ الخليفة يرسل كتبًا إلى سائر الأمصار الإسلامية يستنجد بها، ويطلب الدعم لصد الفتنة، لكن الوقت كان قد تأخر، والمدينة أصبحت مسرحًا للتمرد.
صبر الخليفة ومأساة النهاية
ظل الخليفة محاصرًا في داره، يمتنع عن القتال أو الدعوة للقتال، رغم محاولات بعض الصحابة كعلي وطلحة والزبير في التوسط مع المتمردين.
لكن الثوار أصروا على تنفيذ نيتهم، ونجحوا في اقتحام منزل الخليفة في لحظة من غفلة الحرس، وقتلوه وهو يتلو المصحف الشريف، وسالت دماؤه الطاهرة على آية من كتاب الله.
النهاية التي فتحت أبواب الفتنة
بمقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، انفتح باب الفتنة الكبرى على مصراعيه، لتدخل الأمة الإسلامية في دوامة من النزاعات السياسية والعسكرية، بدأت بحرب الجمل ثم صفين، وأدت في النهاية إلى انقسام الأمة.
ويبقى موقف عثمان بن عفان في هذا المشهد، درسًا خالدًا في التسامح، ونموذجًا في الحرص على وحدة المسلمين، ولو كان الثمن حياته.
ولعل كلماته وهو يرفض سفك الدماء، تلخص سيرة رجلٍ وازن بين الحكم والرحمة: «والله لا أقتل مسلمًا لدنيا، ولا أفسح في فتنة حرصًا على سلطاني».