كبسة على الإذاعة.. هكذا كانت الحكايات ونوادر الأصوات خلّف الميكروفون
يبحث العديد دائما عن ذكريات طريفة ورائعة سجلتها الإذاعة والصحافة والإعلام، بالتزامن مع اقتراب شهر رمضان المبارك عند عرض بعض ما كان يذاع عبر أثير الإذاعة خلال ليالي وأيام شهر رمضان.
ليالي رمضان
وكانت رؤية الهلال وطقوسه هي الإعلان عن قدوم الشهر الفضيل في الزمان البعيد، أما اليوم، ومنذ أكثر من ستين عاما، فالإعلان الرسمي يكون علي موجات أثير الإذاعة المصرية، من خلال بث أغنية (رمضان جانا)، الأغنية الرسمية للشهر الكريم، ففي مصر، لا يأتي رمضان بدون الإذاعة.
حكاية رمضان جانا.. رفضها الجميع وغناها عبدالمطلب!
تعد قصة الأغنية الخالدة في كل الفواصل، لا بد أن تسمع، ولو مقطعًا منها، قبل بداية الشهر بيوم أو يومين، ولهذه الأغنية مع الإذاعة المصرية قصة لا يتوقعها من يسمعونها وينتظرونها كل عام، فقد كانت الإذاعة في الأربعينيات تجيز عددًا من الأغنيات، وتطلب من المطربين التقدم ليختار كل مطرب أغنية واحدة يسجلها للإذاعة مقابل ستة جنيهات، ولم يستطع المطرب أحمد عبدالقادر أن يسجلها، لأنه فضل أن يسجل أغنية وحوي يا وحوي.
وظلت أغنية (رمضان جانا) عند الإذاعة لا يرغب أي مطرب في أدائها، حتي اضطر المطرب محمد عبد المطلب لأدائها مقابل الجنيهات الستة، وذلك لمروره بضائقة مالية أدت لإفلاسه بسبب الركود الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية.
صوت المدفع في رمضان
تبدأ الطقوس بانطلاق صوت قرآن الإفطار من كل مذياع لدي الجيران في الحي، ولا بد أن يكون بصوت الشيخ الشعشاعي، ذلك الصوت القادم من قلب كل ساعات الصيام الطويلة للأطفال، يبشرهم بفرحة الإفطار التي اقتربت، وللكبار يمثل صوت الشعشاعي الانتهاء من قراءة القرآن والاستعداد للإفطار، أما للأمهات أمام المواقد، فقرآن ما قبل المغرب يعني مد المائدة، والجميع بلا استثناء، داخل البيوت وخارجها، آذانهم معلقة بجملة ينتظرونها من العسكري المتحفز داخل المذياع، ولن يفطروا قبلها: مدفع الإفطار.. اضرب.
تواشيح الشيخان رفعت والشعشاعى
كانا أكثر شيخين محبوبين للصائمين في المحروسة، أما الشيخ عبدالفتاح الشعشاعي فقد ولد عام 1890، وحفظ القرآن على يد والده في عشر سنوات، والتحق بالأزهر ليدرس القراءات، ثم كون فرقة للتواشيح الدينية، أثناء وجوده بالقاهرة؛ بسبب ضعف ما يتلقاه القراء من أجور، ولكنه بدأ رحلته في عالم التلاوة القرآنية عام 1930 في الليلة الختامية لمولد الحسين، وأصبح له معجبون، فتفرغ لتلاوة القرآن الكريم، ثم شارك في الإذاعة بعد افتتاحها عام 1934.
وأصبح الشعشاعي ثاني مقرئ في الإذاعة المصرية بعد الشيخ محمد رفعت، وكان يتقاضى راتبًا سنويًا قدره 500 جنيه، حتى عُيِّن قارئًا لمسجد السيدة نفيسة، ثم مسجد السيدة زينب عام 1939، وهو أول من تلا القرآن الكريم بمكبِّرات الصوت في مكة والمسجد النبوي ووقفة عرفات عام 1948.
أما الشيخ رفعت، فرغم وفاته عام 1950، فإن صوته يسكن قلوب المصريين حتى اليوم، ورغم أنه فقد بصره طفلا فإن حلاوة صوته ظلت حتى اليوم تنير قلوب محبي صوته الذين تعلقوا به عبر الإذاعة؛ قارئا ومؤذنا، حيث افتتح بث الإذاعة المصرية سنة 1934 بصوته وقراءته لسورة الفتح.
ولد في 1882، وحفظ القرآن في عمر خمس سنوات، واحترف إحياء الليالي والمآتم في عمر 15، لينفق على أسرته، وذاعت شهرته من مسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب، إذ اتسم صوته بتعدد طبقاته، واتساع مساحته.
وبدء بث الإذاعة المصرية الرسمية سنة 1934، حصلت الإذاعة على فتوي من شيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم، فكان صوت الشيخ "رفعت" أول ما بث بالآية الأولى من سورة الفتح "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا".
ثم طلبت منه هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" العربية تسجيل القرآن الكريم بصوته، فرفض رفعت ذلك ظنا منه أنه حرام، لأنهم غير مسلمين، لكن فتوي أخري من الإمام المراغي، قطعت التردد بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم.
ألحان السماء
ويروي الكاتب محمود السعدني، في كتابه "ألحان السماء"، أن جمهور الإذاعة هدد بمقاطعتها عندما اختلفت مع الشيخ رفعت على الأجر، وهدد المواطنون بعدم دفع ضريبة الاستماع إلى الراديو، طالما أن الإذاعة لن تحمل لهم صوته.
كان الشيخ رفعت صاحب طوال حياته أعلى أجر بين مقرئي عصره، بل حتى مقارنة بمطربي عصره محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، فقد كان يحصل وحده على 100 جنيه مصري مقابل إحياء ليلة العزاء وليالي رمضان.
وعندما مات الشيخ رفعت، اعتمدت الإذاعة على فيض من التسجيلات كان لدى رواد الليالي التي كان يحييها في مساجد مصر، وعلى رأسهم زكريا باشا مهران، أحد أعيان مركز القوصية في أسيوط، وعضو مجلس الشيوخ المصري، الذي يعود له الفضل في حفظ تراث الشيخ رفعت الذي نسمعه حاليا في الإذاعة المصرية.
خشاف وراديو في كل منزل
وفي كل منزل مصري، هناك واحد من أفراد الأسرة يجب أن يكون مقعده علي مائدة الإفطار قريبا من جهاز الراديو، إما لأنه المسئول عن تغيير المحطات من برنامج إلي مسلسل، أو لأنه يريد أن يسبق الآخرين في السيطرة علي المذياع، واختيار المسلسل الرمضاني الذي يفضله، وكانت المنافسة دائمًا بين فوازير البرنامج العام، ومسلسل الشرق الأوسط.
وفطنت الإذاعة، والعاملون بها في حقيقة الأمر، لارتباط المصريين بالمذياع في رمضان من زمن بعيد، خاصة بعد أن أخذ الأخير مكان راوي الحكاوي المعهود في الأزمنة البعيدة، وبكل ذكاء، حرصت الإذاعة بمحطاتها المختلفة علي الإمساك بالمستمعين في رمضان بكل الطرق وشتي الإغراءات، فأنتجت أعمالا غنائية، وأخري درامية، خصيصًا للشهر الكريم، واقتحمت برامج المنوعات والتسلية بإنتاج جديد عليها أيضا في شهر رمضان، كان أبرز هذا الإنتاج علي الإطلاق عملين ولدا في الخمسينيات، وعاشا حتي اليوم.
ملوك الفوازير وآمال فهمي
وكان ملوك الفوازير ليسوا نيللي وشريهان، ولا حتي ثلاثي أضواء المسرح لجيل الستينيات، ولكنها ملكة الكلام الإذاعية الأشهر الراحلة آمال فهمي، هي من ابتكرت هذه اللعبة، وربطتها بشهر رمضان من خلال ميكرفون إذاعة البرنامج العام، وعلي مدي أكثر من ستين عامًا، ظلت تقدم فوازير رمضان بالإذاعة، حتى بعد أن ظهر نجوم آخرون للفوازير وانتقلت للتليفزيون.
وفي شهر رمضان عام 1955، كان مستمعو الإذاعة في مصر والعالم العربي على موعد مع أول فزورة من "فوازير رمضان"، بصوت الإعلامية آمال فهمي، وطرأت فكرة هذه الفوازير على ذهن آمال فهمي قبل حلول شهر رمضان بثلاثة أشهر.
كما حكت سابقا عندما كانت تستقل السيارة مع زوجها، فاختل توازن عجلة القيادة، وهبط زوجها لإصلاح العجلة، وظلت هي بالسيارة تعاني الملل من الانتظار، عندما سمعت صوت خمنت أنه صوت منفاخ الإطار، وهنا برقت الفكرة أن تستضيف المشاهير، وتطلب منهم التحدث عن أمور لا تمت لمجال عملهم بصلة، في محاولة لتشتيت المستمع الذي يحاول التعرف عليهم من خلال نبرة الصوت وما يميزهم من لازمات، وبالفعل قدّمت 30 فزورة لـ30 صوتًا، وتلقت نصف مليون رسالة بالبريد.
وشارك آمال في كتابة "الفزورة" عدد من نجوم المؤلفين، أولهم الشاعر بيرم التونسي والإعلامي مفيد فوزي ورسام الكاريكاتير صلاح جاهين، ومن بعده نجله الشاعر بهاء جاهين، وتنوعت موضوعات الفوازير بين تخمين وسائل المواصلات "من الحصان إلى الصاروخ"، وأشياء مرتبطة بشهر رمضان مثل المدفع والقطايف والمسحراتي، وتطورت مع مرور السنوات قيمة الجوائز من 5 جنيهات للجائزة الأولى إلى 5 آلاف جنيه.
بلغني أيها الملك السعيد
وفي منتصف الخمسينيات أيضا، أنتجت الإذاعة المصرية رائعة الليالي الألف، أشهر وأبرز أعمال الإذاعة في رمضان (ألف ليلة وليلة)، وحتي بعد أن انتقلت من الإذاعة إلي التليفزيون، ظلت موسيقي اللحن الشهير، المقتبسة من متتالية شهر زاد، للموسيقار الروسى الفذّ ريمسكى كورساكوف، ظلت راسخة في أعماق ذكريات المصريين تذكرهم بشهر رمضان كما عاشوه مع الإذاعة.
مسلسل ألف ليلة وليلة، هذه الرائعة الإذاعية الخالدة التي كتبها طاهر أبو فاشا، وأخرجها الرائد الإذاعي محمد محمود شعبان، في حلقات مأخوذة عن الحكايات التراثية الشهيرة، من كتاب يحمل الاسم نفسه، وقامت الفنانة الراحلة زوزو نبيل بدور شهرزاد، والفنان عبدالرحيم الزرقاني بدور شهريار، وتربت أجيال علي صوت الفنانة زوزو نبيل، وهي تتنهد وتتثاءب وتقول: "بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد"، وهي تروي حكاياتها، لمدة 23 عامًا متواصلة.. وتنوعت حكاياتها ما بين حكاية الملك لقمان ووزيره حسان، وسلامة والمغاربة الثلاثة، وحلاق بغداد، والملك خسروان.
دراما ومسحراتي
تنوع الإنتاج الإذاعي خلال شهر رمضان، وتطور عامًا بعد عام، من برامج مسابقات إلي برامج ترفيه وتثقيف ودراما اجتماعية وكوميدية، فظهرت سلسلة اجتماعية باسم الفنان الراحل "سيد الملاح"، بدأها بمسلسل سيد وحرمه، وكان يقدم توجيهًا أخلاقيًا للمجتمع من خلال قوالب ساخرة لسلبيات في المجتمع، كما قدم البرنامج العام سنويًا مسلسلا للثنائي الجميل شويكار وفؤاد المهندس.
لكن إذاعة الشرق الأوسط تمكنت من أن تنافس، وأن تدخل كل سنة شهر رمضان بعيار ثقيل، فكانت تذيع مسلسلا اجتماعيًا قويًا، مثل «أفواه وأرانب»، و«لست شيطانا ولا ملاكا»، و"على باب الوزير"، ثم كانت تستضيف النجوم على مائدة الإفطار فكان التنافس علي أشده لجذب مؤشر المذياع في كل بيت علي محطة الشرق الأوسط أو البرنامج العام.
وتتوقف محطات الإذاعة عن التسابق واللهث وراء الصائمين بانتهاء فترة الإفطار وانصراف المستمعين لشئونهم، فتقوم ببث شحنة من المواد الدينية المختارة عن آداب وفضائل شهر الصيام، مثل "رمضان حول العالم"، وهو برنامج خاص يقدم لمحات من العادات الاجتماعية المرتبطة بشهر رمضان في مختلف البلاد الإسلامية، وبرنامج "من وحى قصص القرآن الكريم"، وما بين فترة السحور وصلاة الفجر تتناوب محطات الإذاعة في إذاعة رائعة "المسحراتى" لفؤاد حداد وسيد مكاوى، التي كانت كل عام تتناول موضوعًا جديدًا، لكن بنفس اللحن وبصوت الفنان الراحل مكاوي.
وتصل رحلة الصائمين مع الإذاعة في رمضان للمحطة الأخيرة، التي تأخذهم عبر الأثير إلي رحاب مسجد سيدنا الحسين بالقاهرة، في بث مباشر لنقل صلاة الفجر، مسبوقة بالقرآن لمشاهير القراء، لينتهي اليوم الرمضاني بعد الفجر، ويودع المصريون راديو رمضان إلي يوم جديد.