هل يبدأ التوحد قبل الولادة؟.. ارتباط الأم باضطرابات النمو العصبي لدى الطفل

لطالما أثار اضطراب طيف التوحد تساؤلات علمية معقدة حول أسبابه المباشرة والعوامل التي قد تساهم في ظهوره لدى الأطفال، وبينما يستمر الباحثون في استكشاف هذه المتغيرات البيولوجية والبيئية.
وظهرت مؤخرًا دراسة طبية حديثة تسلط الضوء على علاقة محتملة بين إصابة الأم بسكري الحمل أو السكري المزمن وبين ازدياد احتمالية إصابة الطفل باضطرابات النمو العصبي، وهو ما يعيد فتح باب النقاش حول إمكانية أن تبدأ ملامح التوحد بالظهور قبل ولادة الطفل حتى.
الدراسة تسلط الضوء على مرحلة ما قبل الولادة
نُشرت الدراسة في مجلة طبية متخصصة في علم الأعصاب والسلوك التنموي، حيث قام فريق من الباحثين من جامعة كاليفورنيا بمتابعة أكثر من 2000 حالة ولادة لأمهات مصابات بأنواع مختلفة من السكري، سواء سكري الحمل أو السكري من النوع الثاني، ثم قارنوا نتائج النمو العصبي والسلوكي لأطفالهن مع أطفال لأمهات غير مصابات بأي نوع من السكري.
وبحسب ما خلص إليه الباحثون، فإن هناك نمطًا تكرر بين الحالات التي تم تحليلها، حيث لوحظ أن نسبة تشخيص اضطرابات طيف التوحد كانت أعلى بشكل ملحوظ لدى الأطفال الذين وُلدوا لأمهات مصابات بالسكري، خصوصًا في الحالات التي لم يتم فيها التحكم في مستويات السكر بشكل دقيق خلال فترة الحمل.
كيف يمكن أن يؤثر السكري على نمو الجنين العصبي؟
تشير النظرية العلمية التي استندت إليها الدراسة إلى أن ارتفاع مستويات السكر في دم الأم قد يؤدي إلى تغيرات في بيئة الرحم، خصوصًا على مستوى الإمداد بالأوكسجين والمواد المغذية، ما قد ينعكس سلبًا على نمو الدماغ لدى الجنين، كما أن الالتهابات المزمنة المصاحبة لبعض حالات السكري قد تؤثر على نمو الخلايا العصبية وتكوين الروابط الدماغية الأساسية، وهي العوامل التي قد تشكل لاحقًا جزءًا من ملامح التوحد أو غيره من اضطرابات النمو العصبي.
ويُرجح بعض الباحثين أن هذه التأثيرات تبدأ في المراحل المبكرة من تكوين الجنين، حيث يكون الدماغ في أكثر مراحله حساسية لأي اضطراب في الإمدادات البيولوجية أو التأثيرات الهرمونية، ما يعزز فرضية أن التوحد قد تكون له جذور مبكرة جدًا، ربما قبل الولادة بفترة طويلة.
الفرق بين سكري الحمل والسكري المزمن
من المهم التفرقة بين نوعي السكري الذين شملهما البحث، إذ أن سكري الحمل هو حالة مؤقتة تصيب بعض النساء خلال فترة الحمل فقط، بينما السكري من النوع الثاني هو مرض مزمن قد يستمر مع المرأة قبل وأثناء الحمل، وقد أظهرت الدراسة أن الأثر الأكبر على الجنين تم رصده لدى النساء المصابات بالسكري المزمن، إلا أن سكري الحمل أيضًا كان مرتبطًا بزيادة ملحوظة في احتمالية ظهور مؤشرات اضطرابات النمو لدى الأطفال، خصوصًا عند تأخر التشخيص أو عدم الالتزام بالخطة الغذائية والعلاجية.
توصيات الباحثين للأمهات الحوامل
بناءً على نتائج الدراسة أوصى الباحثون بضرورة متابعة النساء الحوامل بشكل دقيق من قبل فرق طبية متخصصة، خصوصًا في حال وجود تاريخ عائلي للإصابة بالسكري أو حالات سابقة من سكري الحمل، كما دعا الفريق إلى أهمية إجراء فحوصات مبكرة للكشف عن المؤشرات الأولية لاضطرابات النمو لدى الأطفال المولودين لأمهات مصابات بالسكري، وذلك من أجل التدخل العلاجي المبكر والذي قد يسهم في تحسين فرص تطور الطفل بشكل طبيعي.
كذلك شدد الباحثون على أهمية اتباع نظام غذائي صحي ومتوازن أثناء الحمل، والحرص على التحكم في مستويات السكر من خلال الأدوية أو تعديل نمط الحياة، حيث إن الوقاية من اضطرابات الحمل قد تكون مفتاحًا مهمًا لتقليل احتمالات ظهور اضطرابات النمو مستقبلاً.
هل التوحد نتيجة حتمية لإصابة الأم بالسكري؟
رغم أن نتائج الدراسة تشير إلى وجود ارتباط إحصائي بين سكري الأم واضطرابات النمو العصبي، إلا أن الباحثين أكدوا أن هذا الارتباط لا يعني بالضرورة وجود علاقة سببية حتمية، فالتوحد يظل اضطرابًا معقدًا تشترك في ظهوره مجموعة من العوامل الوراثية والبيئية، كما أن العديد من الأطفال الذين وُلدوا لأمهات مصابات بالسكري لم يُظهروا أي علامات تدل على إصابتهم باضطرابات طيف التوحد.
وبالتالي يجب التعامل مع نتائج الدراسة باعتبارها مؤشراً مهماً يستحق مزيدًا من البحث والدراسة، وليس كحكم نهائي على ارتباط السكري بالتوحد، وهو ما يشدد عليه معظم الباحثين في هذا المجال، حيث إنهم يدعون إلى توسيع نطاق الأبحاث لتشمل عينات أكبر وتحليلات جينية وبيئية أعمق.
الحاجة إلى وعي صحي شامل
تعكس هذه الدراسة المتقدمة أهمية الوعي الصحي قبل وأثناء الحمل، ليس فقط من أجل صحة الأم ولكن أيضًا من أجل حماية الطفل من مشكلات صحية محتملة في المستقبل، فكلما زاد الوعي بمخاطر مثل سكري الحمل أو السكري المزمن، زادت فرص الوقاية، سواء من خلال التدخلات الطبية أو تحسين أسلوب الحياة.
وفي هذا السياق يلعب الأطباء والمراكز الصحية دورًا محوريًا في تقديم التثقيف الصحي اللازم للنساء في سن الإنجاب، كما أن الحمل يجب أن يُعامل كمرحلة حساسة تتطلب مراقبة دقيقة ومستمرة، تضمن ولادة طفل يتمتع بأعلى درجات السلامة الصحية .
التوحد ومسؤولية الكشف المبكر
رغم عدم وجود علاج نهائي للتوحد حتى الآن، إلا أن التدخل المبكر والتشخيص في السنوات الأولى من عمر الطفل يمكن أن يُحدث فارقًا كبيرًا في حياته، ومن هنا تأتي أهمية مراقبة الأطفال المعرضين لمخاطر أكبر، مثل أولئك الذين لديهم تاريخ عائلي مع التوحد أو وُلدوا في ظروف طبية مثل سكري الأم أو الولادة المبكرة أو انخفاض الوزن عند الولادة.
ويظل الأمل معقودًا على تقدم البحث العلمي لفهم أعمق لأسباب التوحد وتطوير استراتيجيات وقائية وعلاجية تسهم في تحسين جودة حياة الأطفال المصابين وأسرهم.