بعد 12 عاما من التجارب.. «الخلايا الجذعية» تقترب من فك شفرة التوحد

التوحد من أكثر الاضطرابات النمائية تعقيدًا وتأثيرًا على حياة الأفراد وأسرهم، وقد شغلت أسبابه وأسراره حيزًا كبيرًا من اهتمام الباحثين على مدار عقود، وبعد مسيرة بحثية طويلة استمرت أكثر من 12 عامًا توصل فريق علمى دولى إلى نتائج مبهرة باستخدام «الخلايا الجذعية المعدلة» قد تفتح الباب لفهم جديد لطبيعة التوحد والاضطرابات المرتبطة به، وتعد هذه التجربة من بين الأبحاث الرائدة التى لم تكتف بمراقبة الأعراض وإنما سعت للتدخل داخل الخلايا العصبية لمحاكاة ما يحدث بالفعل داخل دماغ الشخص المصاب بالتوحد.١
ما هو التوحد؟.. اضطراب غامض بتأثيرات عميقة
يعرف التوحد علميًا باسم اضطراب طيف التوحد ويعد من الاضطرابات العصبية التطورية التى تظهر فى السنوات الأولى من عمر الطفل، وتتسم بصعوبات فى التواصل والتفاعل الاجتماعى بالإضافة إلى سلوكيات متكررة ونمطية، ويختلف تأثير التوحد من شخص لآخر فقد يعانى البعض من أعراض خفيفة بينما يواجه آخرون تحديات عميقة تتطلب دعمًا مكثفًا مدى الحياة، وتشير الإحصائيات العالمية إلى تزايد حالات التوحد بشكل ملحوظ خلال العقود الأخيرة مما دفع العلماء للبحث الجاد عن أسبابه وآليات تطوره
خلايا جذعية للكشف عن أسرار الدماغ
قام الباحثون فى هذه التجربة الجديدة باستخدام «خلايا جذعية معدلة» تم اشتقاقها من خلايا الجلد لأشخاص يعانون من التوحد ثم إعادة برمجتها لتتحول إلى خلايا عصبية مماثلة لتلك الموجودة داخل الدماغ، وبهذه الطريقة تم إنشاء نماذج خلوية دقيقة تحاكى البيئة العصبية للمصابين بالتوحد، مما أتاح للعلماء مراقبة النشاط العصبي والتفاعلات البيوكيميائية بدقة كبيرة، وهذه الخطوة تعد ثورة حقيقية فى مجال الطب الجزيئي وعلوم الأعصاب
نتائج صادمة.. وفروق واضحة بين الدماغ المصاب والسليم
أظهرت التجارب وجود اختلافات جوهرية فى طريقة تواصل الخلايا العصبية المأخوذة من الأشخاص المصابين بالتوحد مقارنة بتلك المأخوذة من أفراد لا يعانون من هذا الاضطراب، فقد لوحظ وجود خلل فى الإشارات العصبية وسرعة التواصل بين الخلايا، مما يشير إلى أن التوحد ليس فقط سلوكًا يظهر على السطح وإنما يبدأ من أعماق الخلية العصبية ذاتها، كما تبين وجود اضطراب فى إنتاج بعض البروتينات المسؤولة عن بناء الوصلات العصبية فى الدماغ، مما يعزز من فرضية أن التوحد مرتبط بعيوب بيولوجية دقيقة تحدث أثناء التكوين المبكر للدماغ
أمل جديد للعلاج المبكر
رغم أن التوحد لا يزال حتى الآن بلا علاج نهائي فإن فهم آلياته على المستوى الخلوي والجزيئي يمنح الأطباء والعلماء أملًا جديدًا فى التوصل إلى علاجات أكثر دقة وفاعلية، فبدلًا من التعامل مع الأعراض فقط أصبح بالإمكان التفكير فى وسائل للتدخل المبكر لإعادة توازن الإشارات العصبية داخل الدماغ وربما مستقبلاً استخدام «الخلايا الجذعية» كوسيلة علاجية لإصلاح الخلل من جذوره، هذا الاتجاه ما زال فى مراحله الأولى ولكنه يبشر بمستقبل أكثر وضوحًا وفهمًا لطبيعة التوحد
12 عامًا من العمل الدؤوب والتعاون الدولى
استمرت هذه التجربة ما يقارب 12 عامًا وشملت فرقًا بحثية من جامعات ومراكز طبية متعددة حول العالم، حيث عمل العلماء من تخصصات مختلفة تشمل علم الأعصاب والوراثة والهندسة البيولوجية على تحليل النتائج والتأكد من صحتها من خلال آلاف الخلايا، وقد أكد الباحثون أن التقدم الذى تحقق كان بفضل التعاون العالمى وتبادل الخبرات والتكنولوجيا الحديثة فى معالجة الخلايا الجذعية وتعديلها ورصد نشاطها
ما الذى تعنيه هذه النتائج للأسر والمجتمع؟
فهم التوحد بشكل أدق يفتح الباب أمام تشخيص مبكر وأكثر دقة مما يساعد الأسر فى تحديد احتياجات أبنائهم فى سن صغيرة، كما أن ذلك يوفر على المجتمعات تكلفة الدعم طويل الأمد ويزيد من فاعلية التدخلات التعليمية والسلوكية، ومع تعمق العلم فى أسرار التوحد قد تتغير النظرة المجتمعية لهذا الاضطراب من كونه لغزًا محيرًا إلى كونه حالة بيولوجية قابلة للفهم والدعم والتعامل العلمى
نظرة مستقبلية.. ما بعد فك الشفرة
يرى العلماء أن ما تحقق حتى الآن هو مجرد بداية لفهم أكثر تعقيدًا لما يحدث فى أدمغة المصابين بالتوحد، فكل اكتشاف جديد يفتح عشرات الأسئلة حول العوامل الوراثية والبيئية التى قد تتداخل لتؤدى إلى ظهور هذا الاضطراب، وتشير التقديرات إلى أن استمرار الأبحاث باستخدام تقنيات الخلايا الجذعية سيكشف مزيدًا من التفاصيل الدقيقة حول مسارات التوحد وكيفية تطوره، مما يعزز من فرص التوصل إلى علاج مستقبلى قد يغير حياة الملايين حول العالم.