«دماغ الفشار».. كيف تعيد التكنولوجيا تشكيل عقولنا يوميا؟
في عصر تتسارع فيه وتيرة التطور يوماً بعد يوم، أصبحت التكنولوجيا محور حياتنا اليومية ومصدرًا لا يمكن الاستغناء عنه، فهي ترافقنا منذ لحظة الاستيقاظ وحتى لحظة النوم، ولكن ما لا يدركه الكثيرون أن التكنولوجيا لا تغيّر فقط أسلوب حياتنا بل تُعيد تشكيل عقولنا بطريقة دقيقة وعميقة تُعرف اليوم بظاهرة «دماغ الفشار»، وهي حالة نفسية وعصبية تصف كيف يؤثر التعرض المستمر للمحفزات الرقمية السريعة على تركيز الإنسان وطريقة تفكيره.
مفهوم «دماغ الفشار» وعلاقته بالتكنولوجيا
مصطلح «دماغ الفشار» يشير إلى حالة من التشتت الذهني والنفسي الذي يصيب الإنسان نتيجة الاستخدام المفرط للأجهزة الرقمية مثل الهواتف الذكية والحواسيب وشبكات التواصل، وهي نتيجة مباشرة لتأثير التكنولوجيا التي تقدم محتوى سريعًا ومتنوعًا يجعل الدماغ في حالة استنفار دائم، وكأنه يتحول إلى آلة تقفز من فكرة لأخرى كما تتطاير حبات الفشار في المقلاة، وهذا يجعل التركيز العميق أمراً صعباً بينما تصبح قدرة الإنسان على التفاعل الطويل مع فكرة واحدة محدودة للغاية.
لقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن التعرض المستمر للشاشات ووسائل التكنولوجيا يؤدي إلى تقليل قدرة الدماغ على التوقف والتأمل، فالمحتوى السريع الذي تقدمه منصات مثل «تيك توك» و«ريلز» يجعل المستخدم معتادًا على الحصول على جرعات فورية من المتعة والمعلومات، مما يُعيد برمجة الدماغ ليفضّل السرعة على العمق، ويصبح التفاعل مع أي شيء يتطلب صبراً أو تركيزاً أقل جاذبية.
كيف تغيّر التكنولوجيا تركيبة الدماغ؟
يتعامل الدماغ البشري مع المعلومات الواردة عبر التكنولوجيا بطريقة مختلفة عن التعامل مع المعلومات الطبيعية، فعندما يمرر الإنسان بإصبعه عشرات المقاطع في دقائق معدودة، يفرز الدماغ هرمونات المتعة مثل «الدوبامين» في كل مرة يُشاهد فيها شيئًا جديدًا، ومع الوقت يصبح الدماغ «مدمنًا» لهذا النمط من التحفيز السريع، مما يؤدي إلى تراجع قدراته على التركيز والتذكر والتفكير النقدي، وهذا ما يجعل ظاهرة «دماغ الفشار» أكثر شيوعاً بين الأجيال الحديثة التي نشأت في أحضان الأجهزة الذكية.
وتشير الدراسات إلى أن التكنولوجيا الحديثة لا تغيّر فقط طريقة معالجة المعلومات بل تغيّر أيضاً المسارات العصبية في الدماغ، حيث تتراجع قدرة الفص الجبهي المسؤول عن التفكير المنطقي بينما تنشط مناطق المكافأة المسؤولة عن الإدمان والمتعة الفورية، وهذا ما يفسر لماذا يشعر الكثيرون بالضيق عند محاولة الابتعاد عن الهاتف أو الإنترنت لبضع ساعات فقط.
وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها العاطفي
لا يمكن الحديث عن «دماغ الفشار» دون التطرق إلى دور وسائل التواصل التي تعد أحد أهم أشكال التكنولوجيا التي أثرت في الحالة النفسية والعاطفية للبشر، فبينما كانت الوسائل التقليدية تنقل المعلومات بوتيرة بطيئة وتسمح بالتفكير والتحليل، أصبحت وسائل التواصل تخلق طوفاناً من الأخبار والمقاطع والمنشورات التي تُغرق العقل في بحر من المحفزات المتناقضة، مما يجعل الإنسان يعيش في دوامة من المقارنات والمقاطع المضحكة والأخبار السلبية في وقت واحد.
لقد أصبحت التكنولوجيا اليوم تمزج بين المشاعر بشكل يجعل الدماغ غير قادر على التمييز بين ما هو مهم وما هو تافه، فالخبر الحزين قد يليه مقطع ساخر ثم إعلان دعائي، وهذا التقلب السريع في المشاعر يؤدي إلى إنهاك نفسي وعقلي يعرفه العلماء اليوم باسم «الإرهاق الرقمي» الذي يُعد أحد أعراض «دماغ الفشار».
هل يمكننا استعادة السيطرة على عقولنا؟
السؤال الأهم الذي يطرحه العلماء اليوم هو: هل يمكننا الحد من تأثير التكنولوجيا على أدمغتنا؟ الإجابة ليست سهلة ولكنها ممكنة إذا وُجد وعي كافٍ، فالخطوة الأولى تبدأ من إدراك أن الدماغ يحتاج إلى فترات راحة من التحفيز السريع، أي أنه يجب تدريب النفس على العودة إلى «الملل» الإيجابي الذي يتيح للعقل مساحة للتفكير والإبداع، كما يُنصح بالحد من التنقل السريع بين التطبيقات والمقاطع واستبدالها بأنشطة تساعد على التركيز مثل القراءة أو التأمل أو المشي دون هاتف.
كذلك يمكن استخدام التكنولوجيا نفسها كوسيلة علاجية إذا أحسن الإنسان توجيهها، فهناك تطبيقات تساعد على تنظيم الوقت وتقليل الإشعارات وتحديد فترات استخدام محددة، وهذه الأدوات يمكن أن تكون «تكنولوجيا مضادة للتكنولوجيا» أي حلول رقمية لضبط السلوك الرقمي نفسه.
الجيل الجديد بين الفرصة والخطر
الأجيال الجديدة التي وُلدت في ظل التكنولوجيا تواجه تحدياً خاصاً، فهي تمتلك قدرات مذهلة على التعامل مع الأجهزة الحديثة ولكنها في الوقت ذاته مهددة بفقدان بعض المهارات الإنسانية الأساسية مثل الصبر والتفاعل الواقعي والقدرة على التفكير المستقل، فكلما ازداد الاعتماد على المحتوى السريع كلما تراجعت القدرة على التحليل، وهو ما يثير قلق الخبراء التربويين الذين يرون أن التعليم بحاجة إلى التكيف مع هذا الواقع الجديد.
ومن ناحية أخرى فإن التكنولوجيا تحمل أيضاً إمكانيات عظيمة للتطور إذا تم استخدامها بوعي، فهي تتيح فرص التعلم الذاتي والوصول إلى المعلومات بشكل لم يكن متاحًا من قبل، ولكن يبقى التوازن هو المفتاح، أي أن نستخدمها كأداة لا أن نسمح لها بأن تتحكم فينا وتُعيد تشكيل عقولنا كما تشاء.
نحو وعي رقمي جديد
ظاهرة «دماغ الفشار» ليست مجرد مصطلح بل هي جرس إنذار يدعونا لإعادة التفكير في علاقتنا بـ التكنولوجيا، فكل دقيقة نقضيها أمام الشاشة تشكّل عقولنا من جديد بطريقة خفية، وإذا لم نتوقف بين حين وآخر لنسأل أنفسنا كيف نستهلك المحتوى الرقمي، فإننا سنفقد تدريجياً قدرتنا على التفكير العميق والإبداع الحقيقي، لذلك علينا أن نتعامل مع التكنولوجيابوعي أكبر ونوازن بين العالمين الواقعي والافتراضي حتى نحافظ على إنسانيتنا في زمن السرعة الرقمية.