صوت مدبولي من الذاكرة.. حين صارت الجملة مشهدا.. والمشهد حياة كاملة

ترك لنا الفنان الراحل عبد المنعم مدبولي واحدًا من أعذب مشاهد الدراما المصرية وأكثرها تأثيرًا في مشهد جمع بين الأب والابنين في مسلسل «أبناء الأعزاء.. شكرًا» الذي عرض عام 1979، ليُجسد ما يمكن تسميته بـ «درس أبوي في فلسفة الحياة».
وبهذه الكلمات البسيطة والعميقة، ترك لنا الفنان الراحل عبد المنعم مدبولي واحدًا من أعذب مشاهد الدراما المصرية وأكثرها تأثيرًا، «لقد تمتعت كثيرًا يا بُني بالدنيا، تمتعت يوم ما أنجبتكم، تمتعت يوم ما أنهيتم دراستكم وشرفتوني، تمتعت أكثر يوم ما تزوجتم وصار لكل منكم بيتًا، تمتعت بنعمة ربنا كلها يوم ما أنجبتم وحملت أولادكم على يدي.. لقد تمتعت كثيرًا جدًا بالدنيا.. لا تشغلوا بالكم بي.. عندما أراكم في صحة وسعادة، هذه هي متعتي كلها».
«بابا عبده».. الاسم الذي أحبه الجمهور
رغم أن مدبولي قدّم عشرات الأدوار قبل هذا المسلسل، فإن الجمهور اختزل الأبوة المصرية الحانية كلها في اسم «بابا عبده».
الشخصية التي لعبها بإتقان شديد، وجعل منها رمزًا للوالد المصري الطيب، الصارم أحيانًا، المتعلق بأبنائه طوال العمر.
وفي المسلسل، يُحال بابا عبده إلى التقاعد، ويقرر أن يملأ فراغه بوظيفة بسيطة. لكن أبناءه يعارضون، طالبين منه أن يرتاح ويستمتع بسنوات عمره المتبقية.
فيرفض، ويُصرّ على أن استمتاعه الحقيقي لم يكن أبدًا في الفراغ، بل في رحلته معهم منذ أن كانوا أطفالًا حتى صاروا رجالًا وأمهات.
دراما لا تشيخ
جاء العمل من تأليف الكاتب الكبير مصطفى محرم، وإخراج محمد فاضل، ولعب أدوار الأبناء نخبة من النجوم الشباب آنذاك، الذين صاروا رموزًا فنية لاحقًا، مثل يحيى الفخراني، فاروق الفيشاوي، صلاح السعدني، وآثار الحكيم.
وقد لاقى المسلسل نجاحًا مدويًا داخل مصر وخارجها، ووصل تأثيره لدرجة أن مدبولي روى في حوار تليفزيوني طريف أن رجلًا مسنًا قابله يومًا وقال له: «أنا أنت.. وأولادي هم أولادك».
ذكريات «مدبولي» عن الطفولة والحياة
لم يكن تجسيد مدبولي لهذه الشخصية عبثيًا، فقد عاش بنفسه مشاعر قريبة من تلك التي قدمها في «بابا عبده».
إذ فقد والده صغيرًا، وترعرع في كنف والدته التي اهتمت بتعليمه، حيث ألحقته بالكُتاب في عمر الرابعة، ثم بمدرسة الهلال.
تأثر مدبولي بأجواء حي باب الشعرية الشعبي، بما فيه من موالد، وأفراح، وفرَق مسرحية وموسيقية، كلها صقلت وجدانه وساهمت في تكوين مخزونه الفني.
وفي أحاديثه التليفزيونية، كان يصف هذا المخزون بـ«الذاكرة الداخلية للممثل»، والتي يستدعي منها لحظاته الشخصية ليؤدي أدواره بصدق شديد، خاصة في المشاهد الحزينة أو الإنسانية العميقة.
«مدرسة مدبولي».. عندما صارت الكوميديا حكمة
لم يكن عبد المنعم مدبولي مجرد ممثل بارع، بل شكّل مدرسة فنية مستقلة. تنقل بين الفرق المسرحية، وأسّس فرقته الخاصة، وشارك في تأسيس مسرح التلفزيون.
وفي رحلته الطويلة، كان زميلًا ورفيق درب لرواد الكوميديا مثل فؤاد المهندس وأمين الهنيدي، وامتدادًا حيًا للتراث المسرحي الذي بدأه نجيب الريحاني وعلي الكسار.
ورغم أنه بدأ حياته في المسرح، إلا أن السينما احتضنته في ما يزيد على 150 فيلمًا، من أبرزها «الحفيد»، «إحنا بتوع الأتوبيس»، «غرام في أغسطس»، و«المليونير المزيف»، ليترك بصمته في كل أنواع الدراما، من الكوميديا إلى التراجيديا.
الطفل الذي لم ينسه.. أغاني مدبولي للأطفال
ومثلما كان أبًا فنيًا للكبار، كان أيضًا وجهًا محببًا للأطفال. بصوته الحنون وأسلوبه البسيط، غنى للأطفال في مناسبات مختلفة، أبرزها أغنيته الشهيرة في مسلسل «أبناء الأعزاء» مع الطفل وليد يحيى: «كان فيه اسمه الشاطر عمرو.. وكمان كان فيه جدو بشنابات».
كما قدم للأطفال أغنية «الشمس البرتقالي»، وشارك هدى سلطان في أغنية «توت توت»، وغنى «كاكا كاكي» وغيرها من الأغاني التي ظلت تُذاع في برامج الأطفال حتى مطلع الألفية.
التكريم والرحيل
نال مدبولي تقدير الدولة وجمهورها، فحصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1983، وجائزة الدولة التقديرية عام 1984، كما تلقى شهادة تقدير من الرئيس أنور السادات عن مسلسله «أبناء الأعزاء.. شكرًا».
وفي التاسع من يوليو/تموز عام 2006، رحل عبد المنعم مدبولي عن عمر ناهز 84 عامًا، بعد صراع مع المرض.
لكنه ترك إرثًا ضخمًا من الفن الرفيع، وقلبًا نابضًا في ذاكرة كل بيت مصري وعربي.. إرثًا لا تمحوه السنين، وصوتًا لا ينطفئ.