الإثنين 17 مارس 2025 الموافق 17 رمضان 1446
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس مجلس الإدارة
محمد جودة الشاعر
رئيس التحرير
د.محمد طعيمة
القارئ نيوز القارئ نيوز
رئيس مجلس الإدارة
محمد جودة الشاعر
رئيس التحرير
د.محمد طعيمة
عاجل

تاريخ المفكر الكبير ابن خلدون قبل رحيله إلى الأندلس

ابن خلدون
ابن خلدون

تحل علينا اليوم ذكرى رحيل ابن خلدون (توفي فى 16 مارس 1404)، وهو  أحد أشهر المفكرين المسلمين، والاسم الشهير الذي كان له تأثير على علماء الاجتماع في العصور التي تلته في الغرب والشرق، فكيف كانت حياته قبل ذهابه إلى مصر؟.

حياة ابن خلدون

نعتمد في ذلك على كتاب "حياة ابن خلدون ومُثل من فلسفته الاجتماعية" لـ محمد الخضر حسين:

يقول الكتاب: نسب ابن خلدون 

هو وليُّ الدين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي، ويتصل هذا النسب إلى وائل بن حجر الصحابي الذي وفد على النبي ﷺ فبسط له رداءه وأجلسه عليه ودعا له.

ذكر ابن خلدون نسَبه على هذا النسق، وقال: لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة.

دخول ابن خلدون إلى الأندلس

كان خلدون المذكور قدِم من المشرق في رهط من قومه أهل حضرموت ونزل إشبيلية، وهي حمص التي يقول فيها صاحب مرثية الأندلس:

وأين حمصٌ وما تحويه من نُزَهٍ ونهرُها العَذْبُ فيَّاضٌ وملآنُ تفرَّع آل خلدون في إشبيلية، وكانت لهم فيها زعامة ورياسة، ثم رحل جده الحسن عقب فتنة خفقت ريحها في تلك البلاد فنزل سبتة، ثم أرخى زمام مطيته متوجهًا إلى مدينة "عنابة"، لصلة كانت بين بعض أسلافه وبين صاحبها الأمير زكرياء، فلقيه الأمير باحتفاء، وأدخله في سلك رجال دولته، وجرى ابنه محمد على سَننه في خدمة الدولة، وأدرك ما ناله والده من وجاهة وإقبال، وانتهى أمر ابنه محمد — الذي هو الجد الأدنى للفيلسوف ابن خلدون — إلى السكنى بمدينة "تونس" والانتظام في هيئة الدولة، وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من مدينة تونس يستعمله عليها، ولكن ابنه محمدًا — وهو والد الفيلسوف المتحدَّث عن حياته — عدل عن مسلك السياسة وخدمة الدولة، وأثر مدارسة العلم ومجالسة الأدباء، فأصبح معدودًا في زمرة العلماء، ومشهودًا له بالتقدُّم في فن الأدب.

نشأة ابن خلدون

في هذا البيت الذي تقلَّب رجاله في أطوار خطرة، ثم بسط فيه العلمُ أشعةً باهرة وُلِدَ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون في غرة رمضان سنة 732، فكانت نشأة ابن خلدون في أسرة امتطت ذُرَى الرياسة، وخفق فيها روح العلم والأدب؛ ممَّا ساعد ذكاءه الفطري على أن يشتعل بشدة، وجعل نفسه الزكية بمقربة من الهمم الكبيرة.

ونشأ ابن خلدون وكانت رياض العلم في مدينة تونس زاهية، وسوق الأدب نافقة، فاستظهر بالقرآن، وتلقَّى فن الأدب عن والده، ثم أقبل يجتني ثمار العلوم بشغف، ويتردَّدُ على مجالسة العلماء الراسخين: مثل قاضي القضاة محمد بن عبد السلام، والرئيس أبي محمد الحضرمي، والعلامة الآبلي.

ولم يكد يستوفي سن العشرين حتى تجلت عبقريته، واستدعاه أبو محمد بن تافراكين المستبد وقتئذٍ إلى كتابة العلامة عن السلطان أبي إسحاق وهي: "الحمد لله والشكر لله" تكتب بالقلم الغليظ ما بين البسملة وما بعدها من مخاطبة أو مرسوم، وهذا مبدأ دخول ابن خلدون في حياته السياسية.

عزمه على الارتحال

تولى هذا العمل وهو يطوي ضميره على الرحلة من إفريقية، لوحشة أثارها في نفسه ذهاب معظم شيوخه، وانطواء مجالسَ كانت أنهارُ علومها دافقة، وقطوف آدابها دانية. ويمكنك من هاهنا أن تعرف لابن خلدون وهو في شرخ شبابه مبدأ من مبادئ الفطرة السليمة، والهمة الشامخة؛ وهو الاستخفاف بالمقام الوجيه لدى الدولة، وإيثار ما فيه كمال نفسي ولذة روحية على مظاهر الأبهة ومواطن الراحة والنعيم.

رحلة ابن خلدون إلى بجاية

لبث ابن خلدون بعد تقليده رسم العلامة أمدًا غير بعيد حتى أمكنته الفرصة من أمنيته، وغادر تونس سنة 753 إلى قفصة ثم إلى بسكرة ونزل فيها ضيفًا مكرمًا لدى صاحبها يوسف بن مزني.

ثم خرج منها قاصدًا السلطان أبا عنان وهو يومئذٍ بتلمسان، فلقيه على الطريق ابن أبي عمرو صاحب بجاية آيبًا من تلمسان، فصرفه عن قصد أبي عنان، وحمله على المسير معه إلى بجاية؛ ليغتبط بصحبته، وتزدهي بمثل ابن خلدون أيامُ دولته.

ابن خلدون عند سلطان فاس

لم يكد ابن خلدون يقضي في كنف صاحب بجاية برهة حتى طار صيته، وعبق ذكره في حضرة السلطان أبي عنان، وقد جعل هذا السلطان بعد عوده إلى فاس يؤلف من جلة العلماء مجلسًا حافلًا، فاستدعاه من بجاية سنة 755 فأكمل به نظام مجلسه العلمي، واختاره للكتابة والتوقيع بين يديه. قال ابن خلدون: "فتحملت هذا العمل على كره مني؛ إذ كنت لم أعهد مثله لسلفي".

اتهامه بالمؤامرة على ما يُغضب السلطان

حظي ابن خلدون لدى أبي عنان وارتقى في دولته مكانًا عليًّا، فأخذ حَرُّ الحسدِ يلفح قلوب بعض منافسيه، فأخذوا يبيِّتون له المكايد، وينصبون له شرك السعاية، حتى استطاعوا أن يدخلوا إلى إفساد قلب السلطان عليه من باب السياسة؛ إذ رموه بالدخول في مؤامرة مع الأمير محمد صاحب بجاية.

ولتهمة الائتمار على نقض شيء مما تبنيه يد الدولة سهام لا تكاد تخسأ، إذا لم تصبِ المَقَاتِلَ أوهت العظمَ وقلقلت الحشا وسلبت الأجفان نومتها الهادئة، وبالأحرى حيث لم تكن قضاياها ممَّا يوكل إلى اجتهاد محكمة عادلة، وإنما ينفرد بسماع بلاغها ويستبد بتقدير عقوبتها أحد الخصمين الذي هو الرئيس الأعلى.

مسيرة ابن خلدون في السجن

انطلت تلك التهمة على فكر أبي عنان فقبض على ابن خلدون والأمير محمد وزجَّهما في السجن. وكانت هذه النكبة أول ما لقيه ابن خلدون من بلاء السياسة، وأيقن بها أن إقبال الدولة سرعان ما ينقلب إدبارًا، وأن عزًّا تبنيه للرجل صباحًا قد يأتي عليه المساء، فإذا هو الدرك الأسفل من الهوان.

ثم إن السلطان أطلق سبيل الأمير محمد، وترك ابن خلدون يقاسي شدة الحبس ويتجرَّع مرارة المحنة، حتى التجأ في استعطافه وجلب مرضاته إلى وسيلة الشعر والمديح وخاطبه بالقصيدة التي يقول في طالعها:

على أيِّ حال لليالي أعاتُب وأيَّ صروف للزمان أغالبُ وقد تنجح شفاعة الشعر لدى الحاكم المطلق وتأتي بالأثر الذي تذهب الحجج الساطعة دونه عبثًا. وما كان من أبي عنان إلا أن هش للقصيدة — وكان وقتئذٍ بتلمسان — ووعد بالإفراج عن ابن خلدون عند حلوله بحاضرة فاس. ولكنه لم يلبث بعد إيابه إلى الحاضرة إلا خمس ليالٍ فطرقه الوجع ولقي أجله قبل أن يفي بوعده لابن خلدون.

خروج ابن خلدون من السجن وولايته كتابة السر وخطة المظالم

وبعد مهلك السلطان بادر الوزير الحسن بن عمر إلى إطلاق سراح ابن خلدون من الاعتقال، وخلع عليه من الإكرام بُردًا ضافيًا، وأعاد إليه ما كان يتقلده من أعمال الدولة.

وعندما استلم السلطان أبو سالم زمام الملك استعمل ابن خلدون على كتابة سره، وألقى إليه الأمر في إنشاء مخاطباته، فعدل بالإنشاء عن طريقة التسجيع وأخذ به في طريق الترسُّل — ولم يكن في كُتَّاب الدولة لذلك العهد من يجيد صناعة الترسُّل — فكانت هذه المزية من أسباب تفوُّقه وإحرازه قصب السبق في حلبة البيان والتحرير.

ولم تزل مكانته لدى أبي سالم راضية، ولم تزحزحه سعاية ابن مرزوق — التي تناولت أكثر رجال الدولة — عمَّا كان يتولاه من كتابة السر وإنشاء المخاطبات، بل لم تقف في سبيل تقليده خطةَ المظالم آخر عهد الدولة، حتى ثار الوزير عمر بن عبد الله على السلطان ونبذ الناسُ بيعته من أعناقهم

ابن خلدون في دولة الوزير عمر بن عبد الله

وقع زمام الحكم في قبضة الوزير عمر بن عبد الله وكانت بينه وبين ابن خلدون قبل توليه أمر الدولة مودَّةٌ وصحبة، فأقره على ما كان يتولاه من العمل وزاد في جرايته. وكان ابن خلدون يطمح بطغيان الشباب إلى غاية أسمى ممَّا يتولى من الأعمال، وفي أمله أن عناية صديقه المقتدر لا تتريث في إسعافه ببغيته. ولما لاح له أن الوزير أخلَّ بعهد الصحبة أخذه الاستياء من تقصيره إلى أن انقطع عن دار السلطان وهجرها؛ إدلالًا بسابق المودة، ولكن منصب الوزارة أنسى عمر بن عبد الله أن من أساليب عتب الأصدقاء وتذكيرهم بحق أغمضوا عنه هجرَهم من غير جفاء، وصرف القدم عن زيارتهم لا عن ملل. 

ولم يشأ منصبُ الوزارة إلا أن يفهمه أن تقاعد ابن خلدون عن مقر السلطان زلةٌ جرَّه إليها تعاظمه وقلة وفائه بما يستحق مقام الرياسة العليا من إكبار وخضوع، فبدلًا من أن يرعى الوزير مقام الصداقة ويجعله أرفعَ مكانًا وأقوى سلطانًا من مقام الرياسة، أخذته نخوة السلطة، وقابل هجر العتاب والإدلال بهجر الجفاء والتقاطع.

ولما رأى ابن خلدون منه التنكُّر والإصرار على الإعراض عنه استأذنه في العود إلى إفريقية، فلم يُجِزْ له ذلك، وشدد في منعه، حتى دخل عليه يوم عيد الفطر وخاطبه بقصيدة يقول في طالعها:

هنيئًا لعيد لاعداه قبولُ وبشرى لعيد أنت فيه منيلُ فحلت هذه القصيدة عقدة من إبائه، وأذن له في السفر، على شرط أن لا يتخذ سبيله إلى تلمسان؛ كراهة أن يتصل بصاحبها أبي حمو ويشتد به أزر دولته.

رحلة ابن خلدون إلى الأندلس

احتمل ابن خلدون هذا الشرط، وولى وجهه شطر الأندلس وافدًا على السلطان ابن الأحمر بغرناطة. ولما بات بمقربة منها وافته من وزيرها لسان الدين بن الخطيب رسالة يهنئه فيها بالقدوم، ويعبر بها عن شدة ابتهاجه لِلُقياه، ووضع في صدر الرسالة أبياتًا — على سنَّة من يجيد صناعتي الشعر والنثر — وهي:

على الطائر الميمون والرحب والسهل حللتَ حلول الغيث في البلد المحل

يمينًا بمن تعنو الوجوه لوجهه من الشيخ والطفل المعصب والكهل

لقد نشأت عندي للقياك غبطةٌ تنسِّي اغتباطي بالشبيبة والأهل

تم نسخ الرابط