«الأغنية السينمائية».. أزمة ممتدة منذ الثلاثينات لا تزال تبحث عن مخرج

«الأغنية السينمائية».. رغم مرور أكثر من تسعين عاما على بداية السينما الناطقة في مصر، وتحديدا منذ الثلاثينات، إلا أن مشكلة «الأغنية السينمائية» ما زالت قائمة، ويبدو أن التطور الذي شهدته السينما من حيث الصورة والتقنيات لم يشمل هذا العنصر الفني الحساس، الذي ظل حبيسًا لقواعد أرساها المخرج محمد كريم، ولم ينجُ منها حتى مخرجونا المعاصرون.
ففي كتاب «قصة السينما» للناقد سعد الدين توفيق، والصادر عن دار الهلال عام 1969، يتوقف الكاتب مطولًا أمام هذه الأزمة، ويشير إلى أن السينما المصرية، خاصة في أفلامها الغنائية، لم تحل حتى الآن معضلة «الأغنية السينمائية» التي يجب أن تعامل باعتبارها جزءًا من القصة وليست استراحة موسيقية لعرض إمكانيات المطرب فقط.
محمد كريم.. واضع القاعدة
يشير الكاتب إلى أن المخرج محمد كريم كان أول من واجه هذه الإشكالية عمليًا عندما أخرج سلسلة أفلام غنائية لعب بطولتها الموسيقار محمد عبد الوهاب، من بينها «دموع الحب»، و«يحيا الحب»، و«يوم سعيد»، و«ممنوع الحب»، و«رصاصة في القلب». ورغم النجاحات الجماهيرية لهذه الأفلام، فإن أسلوب كريم في معالجة الأغنية على الشاشة ظل نمطًا يُحتذى به لعقود طويلة.
فكريم، كما يوضح سعد الدين توفيق، كان يصور الأغنية بكاميرا ثابتة على وجه المطرب طوال الكوبليه، ثم ينتقل خلال الفواصل الموسيقية إلى مشاهد طبيعية مثل «حمامتين»، أو «نهر النيل»، أو «قارب شراعي»، ثم يعود إلى عبد الوهاب عند بدء المقطع التالي، وتظل الكاميرا ثابتة دون كسر للزاوية أو حركة تُثري المشهد بصريًا.
ورغم أنه كان أكثر شاعرية من مخرجين آخرين أمثال ماريو فولبي، مخرج «أنشودة الفؤاد»، إلا أن الأسلوب ذاته أدى إلى ترسيخ طريقة تقليدية ظلت تلاحق الأغنية السينمائية في مصر لعقود لاحقة.
الأغنية تجمد القصة
يرى سعد الدين توفيق أن هذا النمط جعل الأغنية في الفيلم المصري لا تختلف عن الأغنية في الحفلات العامة أو عبر الإذاعة، حيث تغنى بطريقتها الكاملة، وبمقاطعها المتعددة، وفواصلها الموسيقية الطويلة، ما يجعلها تبدو وكأنها «وصلة» غنائية تقطع تسلسل الأحداث ولا تُضيف شيئًا إلى البناء الدرامي للفيلم.
ويضيف الكاتب: «كان المطلوب أن تعبر الأغنية عن موقف درامي بداخل الفيلم، أي أن تكون بديلاً للحوار، لا أن تقفز من خارج القصة إلى قلبها، ثم تغادر دون أن تؤثر فيها أو تتأثر بها».
دعوة إلى التجديد
يدعو توفيق صناع السينما إلى إعادة النظر في مفهوم الأغنية داخل العمل الدرامي، بدءًا من تأليفها ولحنها، مرورا بطريقة تصويرها.
فيشير إلى أن الحل يبدأ من كتابة الأغنية نفسها، التي يجب أن تتخلى عن الشكل التقليدي المألوف من «لازمة وكوبليه»، لصالح جملة قصيرة تعبر عن حالة أو مشهد درامي، دون فواصل موسيقية لا داعي لها.
ويُطالب أيضًا الملحن بتبني هذا التوجه، من خلال إلغاء المقدمة الموسيقية والفواصل المعتادة، وإعادة صياغة التلحين بما يُناسب الإيقاع السينمائي السريع.
أما المخرج، فعليه أن يُعالج الأغنية كأي مشهد سينمائي آخر، يُفكّر في زوايا التصوير، والمونتاج، وتحريك الكاميرا، لخلق مشهد بصري متكامل لا يبعث على الملل، ويُضيف إلى الحبكة.
«الأوبريت» كاستثناء ناجح
ورغم ذلك الجمود، يبرز سعد الدين توفيق بعض المحاولات الجادة لتقديم الأغنية بأسلوب سينمائي مغاير، وعلى رأسها تجربة «الأوبريت» فى فيلم «يوم سعيد»، حينما قدّم عبد الوهاب مشهدًا من مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي، بالاشتراك صوتيًا مع أسمهان، بينما ظهرت شخصيتا قيس وليلى مجسدتين على الشاشة من خلال أحمد علام وفردوس حسن، بمشاركة عباس فارس.
ويرى الكاتب أن هذا المشهد قدم نموذجًا جيدًا لاستخدام الصوت والصورة بشكل متكامل، وأثبت أن الأغنية يمكنها أن تخدم السينما وليس العكس.
نجاحات بارزة.. ولكن!
يسلط الكتاب الضوء على بعض الأفلام الغنائية التي نجحت جماهيريًا فى تلك الفترة، مثل «انتصار الشباب» (الظهور الأول لفريد الأطرش وأسمهان)، وفيلم «ليلى» لليلى مراد وحسين صدقي، والذي استمر عرضه 16 أسبوعًا، وفيلم «سلامة» لأم كلثوم، المأخوذ عن قصة لعلي أحمد باكثير، وجميعها من إخراج توجو مزراحي.
لكن النجاح الجماهيري لهذه الأفلام، بحسب الكاتب، لا يُعفي صُناعها من المسئولية عن تثبيت شكل الأغنية التقليدية على الشاشة، خاصة أن مخرجين غربيين كانوا قد بدأوا منذ الثلاثينات في تقديم الأغنية داخل الفيلم كجزء درامي محوري، لا مجرد فاصل موسيقي.
تطور لم يكتمل
يُنهي سعد الدين توفيق حديثه بالتأكيد على أن محمد كريم، رغم ريادته، هو من وضع اللبنة الأولى لهذه المشكلة، إلا أن اللوم الأكبر يقع على المخرجين الذين جاؤوا بعده، ولم يُحاولوا التجديد، رغم تغير الزمن، والجمهور، والتقنيات، ورغم المشاهدات المستمرة لأساليب الغرب في تقديم الأغنية السينمائية.
فالأغنية، كما يرى، لا تزال فى السينما المصرية عنصرا «زائدا» لا علاقة له بالقصة، ما لم يُفكّر صنّاع الفن في كسر القوالب الجامدة، وخلق تجربة بصرية ودرامية تُضيف للعمل وتُثريه، بدلًا من أن تُشتت المشاهد وتفصل الأحداث عن سياقها.