رحيل الفنان أديب قدورة..«أنطوني كوين العرب» يودع الحياة بعد مسيرة فنية خالدة

في وداع مؤثر، غيّب الموت الفنان السوري الفلسطيني أديب قدورة عن عمر ناهز 76 عامًا، بعد رحلة فنية طويلة ومُضيئة استمرت لأكثر من أربعة عقود، تنقل خلالها بين خشبة المسرح وشاشة السينما والتلفزيون، تاركًا إرثًا فنيًا لا يُنسى، وحضورًا قويًا ما زال محفورًا في ذاكرة الأجيال.
توفي قدورة، الذي عُرف بلقب «أنطوني كوين العرب»، متأثرًا بوعكة صحية ألمّت به في شهر أبريل الماضي، حيث أعلنت نقابة الفنانين السوريين حينها عن دخوله في حالة صحية حرجة، مما أثار موجة واسعة من التعاطف والدعاء من زملائه وجمهوره في سوريا وخارجها.
من فلسطين إلى دمشق.. مسيرة فنان مُتفرد
وُلد أديب قدورة في 1 يوليو 1948 في فلسطين، وهاجر مع أسرته إلى سوريا في فترة النكبة، مثل كثير من أبناء جيله الذين حملوا الفن سلاحًا للحياة ومقاومة النسيان.
بدأ مسيرته كفنان تشكيلي ومهندس ديكور، حيث تميز بحس بصري عالٍ وشغف بالخطوط والألوان، قبل أن يكتشفه المخرج السوري الكبير نبيل المالح، ويُطلق مسيرته السينمائية من خلال فيلم «الفهد» عام 1972، وهو العمل الذي لا يزال يُعد حتى اليوم من أبرز كلاسيكيات السينما السورية والعربية.
في «الفهد»، جسّد قدورة شخصية معقدة ذات طابع درامي وإنساني، أظهرت موهبته التمثيلية الفطرية، وقدرته على الغوص في أعماق النفس البشرية، ما جعل النقاد يُشيدون به كممثل واعد من الطراز الرفيع.
60 عملًا تلفزيونيًا و37 فيلمًا.. وحضور مسرحي متألق
امتد رصيد أديب قدورة الفني ليشمل أكثر من 60 عملًا تلفزيونيًا، كان من أبرزها «أسعد الوراق»، و«الهروب إلى القمة»، و«الوسيط»، و«نهاية رجل شجاع»، وغيرها من الأعمال التي ترك فيها بصمته الخاصة.
أما في السينما، فقد شارك في نحو 37 فيلمًا، تنوعت بين الرومانسي والسياسي والتاريخي، من بينها: «وجه آخر للحب»، «بقايا صور»، «رحلة عذاب»، و«امرأة من نار»، كما خاض تجربة عالمية من خلال مشاركته في عدد من الأفلام الإيطالية، ما أكسبه بعدًا فنيًا عابرًا للحدود.
وعلى خشبة المسرح، تألق قدورة في عروض لافتة، من أشهرها: «هبط الملاك في بابل»، «مأساة جيفارا»، و«ثلاثية لتشيخوف»، حيث جمع بين القوة التعبيرية والبساطة في الأداء، ليُجسد شخصيات مركبة ببراعة، ويأسر الجمهور بتلقائيته وصدقه.
مؤسس نقابة الفنانين السوريين وجوائز عالمية
لم يكن أديب قدورة مجرد ممثل، بل كان أيضًا من مؤسسي نقابة الفنانين السوريين، حيث ساهم في صياغة مسار العمل النقابي للفنانين في البلاد، وحرص دائمًا على الدفاع عن حقوق زملائه، وتشجيع الأجيال الشابة على الإبداع.
نال خلال مسيرته خمس جوائز دولية عن أدواره، أبرزها في مهرجانات موسكو وبرلين والقاهرة السينمائية، تقديرًا لتفرده الفني وعمق أدائه، وقدرته على الانتقال بسلاسة بين أدوار الخير والشر، والبطولة والهامش.
وقد لقّبه النقاد بـ«أنطوني كوين العرب»، نظرًا لقوة حضوره، وصلابة أدائه، وشخصيته الطاغية التي جعلته يتميز عن غيره من أبناء جيله، ليكون علامة فارقة في مسيرة الدراما السورية والعربية.
موجة حزن في الأوساط الفنية.. ووداع مُؤثر من جمهوره
منذ الإعلان عن وفاته، سادت حالة من الحزن الكبير بين زملائه في الوسط الفني، حيث نعاه العشرات من الفنانين السوريين والفلسطينيين والعرب، وكتب المخرج باسل الخطيب: «برحيل أديب قدورة، نفقد فنانًا حقيقيًا من زمن الفن الجميل، عاش ومات شريفًا، فخورًا بما قدمه».
كما كتبت الفنانة منى واصف عبر صفحتها الرسمية: «يا صديقي، يا من كنت رفيق خشبة المسرح، ونديم الكواليس.. رحلت ولم ترَ ما يستحقه فنك من تكريم.. لكنك ستبقى في القلب وفي الذاكرة».
إرث لا يُنسى.. ودرس في الصمود
رغم غيابه الجسدي، يبقى أديب قدورة حاضرًا في الوجدان العربي، ليس فقط من خلال أعماله، بل أيضًا عبر رسالته الفنية المخلصة، التي لم ينحنِ فيها يومًا للإغراءات التجارية، أو يساوم على قناعاته.
كان نموذجًا للفنان المُثقف، الذي يربط الفن بالقضية، ويُجسد بموهبته معاناة الإنسان الفلسطيني والسوري والعربي، فصار واحدًا من الأصوات الصادقة التي تُقاوم النسيان بالعمل والإبداع.
برحيل أديب قدورة، تطوي السينما السورية والعربية صفحة من صفحاتها اللامعة، لكن أعماله ستظل شاهدة على موهبته، ومواقفه ستبقى دروسًا للأجيال الجديدة، سلامًا لروحه، وخلودًا لفنه، ووفاءً لذاك الجيل الذي أعطى كثيرًا دون أن ينتظر شيئًا.