هل يسمع الميت بكاء أهله قبل دفنه؟
هل «الميت» يسمع بكاء أهله قبل دفنه، وهل يشعر بحزنهم عليه، إن هذا السؤال عن «الميت» يطرق القلوب في اللحظات الأولى بعد الوفاة، ويثير التساؤلات حول ما يحدث في عالم البرزخ، ذلك العالم الغيبي الذي لا نعرف عنه إلا ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تركنا النبي الكريم على «المحجة البيضاء» ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجاء في سنته الشريفة ما يهدئ النفس ويطمئن القلوب عند الحديث عن أحوال «الميت» وما يلاقيه بعد خروج الروح من الجسد.
هل الميت يسمع بكاء أهله قبل دفنه
يتساءل كثيرون عن مسألة سماع «الميت» لبكاء أهله قبل دفنه، وهل يشعر بمن يبكي عليه أو يتألم لألمه، وقد ورد عن العلماء أنه لا توجد نصوص صريحة في الشريعة الإسلامية تؤكد أن «الميت» يسمع بكاء أهله أو يشعر بحزنهم عليه، ومع ذلك فإن البعض يعتقد بأن «الميت» يدرك ما حوله من مشاعر أو أصوات، وهذا الاعتقاد لا يقوم على دليل صحيح من نصوص الوحي، فكل ما ورد في السنة أن «الميت» يرد السلام إذا سُلِّم عليه، وأن الدعاء والقراءة يصل ثوابها إليه، أما أن تكون روحه محلقة حول أهله تشعر بهم وتراهم، فذلك لا يصح شرعًا.
وقد جاء في الأحاديث أن «الميت» حين يُزار في قبره ويرد عليه السلام، يكون ذلك بفضل من الله تعالى الذي يرد إليه روحه ليجيب من يسلم عليه، ومعنى ذلك أن إدراك «الميت» محدود بقدر ما أذن الله به، وليس عامًا في كل الأوقات، فحياة البرزخ ليست كالحياة الدنيا، بل هي حياة خاصة لا يعلم حقيقتها إلا الله، لذا فإن بكاء الأهل أو نواحهم لا يُسمع من «الميت»، ولا يشعر به كما يشعر الأحياء.
حكم زيارة القبور وأثرها على الميت
أكد العلماء على استحباب زيارة القبور، والسلام على أهلها، لما في ذلك من تذكير بالموت والآخرة، ولأن «الميت» يعرف الزائر ويرد عليه السلام، كما ذكر الإمام النووي في كتابه المجموع، حيث قال إن الزائر يستحب أن يدنو من القبر بمقدار ما كان يقترب منه لو كان صاحبه حيًا، وهذا دليل على أن السلام على «الميت» له معنى وأثر، لأنه يسمع سلام من يخاطبه بإذن الله.
كما نقل الإمام ابن القيم في كتابه «الروح» أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يقولوا: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين»، وهو خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا أن «الميت» يسمع لما كان لهذا السلام معنى، وأجمع السلف على أن «الميت» يعرف زيارة الحي له ويستبشر بها، أي يفرح بقدوم من يحبه من الأحياء، فيشعر براحة وسرور عندما يُدعى له ويُستغفر له.
وذكر المناوي في كتابه فيض القدير أن معرفة «الميت» بزيارة الأحياء وردّ السلام فرع عن الحياة ورد الروح، ولا مانع أن يخلق الله هذا الإدراك في بعض جسده أو في جزء من روحه، لأن النفس متعلقة بالجسد تعلق المحب بمحبوبه، وهذا التعلق يبقى حتى بعد الموت، ولهذا نهى الشرع عن كسر عظم «الميت» أو المشي على قبره، لأن في ذلك أذى له.
الدعاء للميت قبل الدفن
يُعد الدعاء للميت قبل الدفن من السنن المؤكدة، وهو نفع متبادل بين الحي والميت، فالميت ينتفع بدعاء من يحب، والحي يُؤجر على ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان»، قيل وما القيراطان؟ قال: «مثل الجبلين العظيمين»، فالدعاء للميت قبل الدفن فيه فضل عظيم، سواء على الميت الذي يُرجى له المغفرة، أو على الداعي الذي يُكتب له الثواب الجزيل.
أجمل الأدعية التي وردت عن النبي للميت
ورد في السنة النبوية عدد من الأدعية المأثورة التي تُقال عند دفن «الميت» ومنها:
اللهم زده سرورًا على سروره وبيض وجهه عند لقائك، يا راحم الحي ورازقه ارحم الميت واغفر له وثبته يا رحيم، اللهم إنا نحسبه عندك شهيدًا فاجعله كذلك برحمتك ومنّك يا كريم، يا الله اغفر له بعدد قطرات دمه وأكثر منها، يا قيوم أقمه على نور في قبره ومستبشرًا بحسن إجابته وتثبيتك إياه عند السؤال، اللهم اغفر لميتنا وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره ونور له فيه.
وهذه الأدعية وغيرها تُعد من أجمل الهدايا التي يقدمها الأحياء إلى «الميت»، لأنها تُرفع روحه وتزيده راحة في قبره، وتفتح له باب الأمل برحمة الله الواسعة.
علاقة الأحياء بالميت بعد وفاته
علاقة الأحياء بالميت لا تنقطع بموته، بل تستمر بالدعاء والصدقة والاستغفار، فالميت في حاجة ماسة إلى دعاء من أحبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، فالدعاء هو الصلة الدائمة بين الحي و«الميت»، وهو برهان الوفاء بعد الفراق.
ويؤكد العلماء أن الإكثار من الدعاء والزيارة والصدقة عن «الميت» من الأعمال التي تصل إليه وتنفعه، وهي من أسباب تخفيف العذاب ورفع الدرجات، فكل عمل صالح يُهدى له يكون سببًا في رحمته وطمأنينته في قبره.
حقيقة عالم البرزخ وحال الميت فيه
عالم البرزخ هو المرحلة الفاصلة بين الدنيا والآخرة، يعيش فيها «الميت» حياة تختلف تمامًا عن حياة الأحياء، فهو يشعر بنعيم أو عذاب القبر بحسب عمله، قال تعالى «ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون»، أي أن «الميت» يكون في عالم خاص لا يعلم حقيقته إلا الله، وتبقى روحه في حال من السكون والانتظار حتى البعث.
وفي هذا العالم قد يُسمع «الميت» بعض الأصوات أو يدرك بعض الأمور التي أذن الله له أن يدركها، كسلام الزائرين ودعائهم، لكنه لا يسمع بكاء أهله كما يسمع الإنسان في الدنيا، لأن حياته البرزخية لها نظام مختلف قائم على الغيب الإلهي.
تسلية لأهل الميت وصبرهم
إن الحزن على «الميت» فطرة إنسانية، ولكن الإسلام دعا إلى الصبر والاحتساب، ونهى عن النواح والجزع، لأن «الميت» يتأذى ببكاء أهله عليه إذا صاحوا ونادوا وجزعوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه إذا قالوا واكرباه وامصيباه»، أي أن الجزع لا ينفع الميت بل يؤذيه، أما البكاء الطبيعي من غير نياحة فهو رحمة أودعها الله في القلوب.
فمن رحمة الله أن جعل الدعاء والعمل الصالح وسيلة لوصل الرحمة إلى «الميت»، وأن جعل الصبر بابًا للأجر العظيم للأحياء، ليجتمعوا من جديد في دار الخلود.



