
في عالمٍ اعتاد على التحالفات الإستراتيجية والتوترات بين زيلينسكي وترامب التي صاغت ملامح القرن العشرين، شهدت العلاقات الأوروبية الأمريكية تحت حكم الرئيس "دونالد ترامب" اختباراً غير مسبوق، إذ مثلت سياسات ترامب الخارجية والاقتصادية "صدمة كبرى" للنظام الدولي الليبرالي الذي ساهمت أوروبا والولايات المتحدة في بنائه عقب الحرب العالمية الثانية، فبينما تمسكت الدول الأوروبية بمبادئ التعددية والتعاون الدولي.
وتبنت واشنطن نهجاً أحادياً تحت شعار "أمريكا أولاً"، مما أثار سلسلة من الخلافات العميقة التي هزت أركان الشراكة عبر الأطلسي، ومن حروب التجارة إلى الإنسحاب من الإتفاقيات الدولية، ومن التهديدات بتفكيك حلف الناتو إلى الخلافات حول ملفات مثل تغير المناخ والملف النووي الإيراني، واتسعت الهوة بين الجانبين لتكشف عن "أزمة ثقة" غير مسبوقة ولم تشهدها العلاقات منذ نهاية الحرب الباردة، ولم تكن هذه الخلافات مجرد إختلافات تكتيكية عابرة، بل كانت إنعكاساً لرؤىّ متضاربة حول دور القيادة العالمية، ومستقبل النظام الدولي، وحتى مفهوم الديمقراطية ذاتها.
وفي هذا المقال، سنحلل جذور هذه الأزمة، مع تسليط الضوء على السياسات "غير الرشيدة" التي إتبعها ترامب، وإنعكاساتها على المصالح الأوروبية، وكيف حاول الإتحاد الأوروبي رغم التحديات الحفاظ على توازن هش بين الإنضباط للواقع الجديد والسعي لحماية قيمتة الإستراتيجية، وقد شهدت السنوات الأربع لرئاسة "دونالد ترامب" السابقة تحولاً جذرياً في السياسة الأمريكية تجاه الحلفاء التقليديين، خاصة في أوروبا، فبينما إعتمدت واشنطن لسنوات على مبادئ التعددية والشراكة الإستراتيجية.
وجاءت سياسات "ترامب الشعبوية" تحت لتعيد تشكيل التحالفات عبر الأطلسي من منظورٍ ضيقٍ، قائم على المصالح الفورية والمواقف الأحادية، وتحوّلت هذه السياسات "غير الرشيدة" إلى عامل تفكيكٍ للثقة التاريخية بين الضفتين، وحاولت دول أوروبا رغم الضغوط الحفاظ على مصالحها في عالمٍ يزداد اضطراباً حتى رحل "ترامب" وخسر الانتخابات أمام "جوبايدن"، وإرتاحت دول العالم ولاسيما؛ دول الإتحاد الأوروبي من كابوس السياسات الترامبية على أمل بعدم عودتها مره آخرىّ، ولكن لم يحالفهم الحظ فقد عاد "ترامب" بسياسات إنتقامية تهدد التحالفات الأوروبية الأمريكية بالتفكك.
ما سبب التهديدات الفرنسية لواشنطن
أكشف؛ هنا في مقالي كيف تحوّلت إدارة "ترامب" إلى عامل تفكيكٍ للإستقرار العالمي، وكيف حاولت فرنسا، تحت قيادة "ماكرون"، إنقاذ ما تبقى من نظام دولي قائم على القواعد، في مواجهة تحالفات غامضة وسياساتٍ قصيرة النظر.
وفي خضمّ التحوّلات الجيوسياسية التي شهدها العقد الماضي، برزت توترات غير مسبوقة في العلاقات الفرنسية الأمريكية، خاصةً خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" السابقة، والتي أثارت سياساتة الخارجية المُتذبذبة هينها تجاه روسيا مخاوف حلفاء واشنطن التقليديين، فبينما سعىّ "ترامب" إلى تقريب المسافة مع الكرملين، مُتجاهلاً انتهاكات موسكو في أوكرانيا وتدخلاتها في الشؤون الديمقراطية الغربية، ووجد الرئيس الفرنسي"ماكرون" نفسه في مواجهة مأزق إستراتيجي، وكيف يحمي مصالح أوروبا في ظل تحالف أمريكي يبدو مُنشغلاً بتصفية حسابات الحرب الباردة؟،
ولم تكن إنتقادات "ماكرون" العلنية لسياسات "ترامب" خاصةً فيما يتعلق بـ"حلف النات" مجرد خلافات دبلوماسية عابرة، بل عبّرت عن "شرخ عميق" في الرؤىّ حول النظام العالمي.
وتحذيرات " ماكرون" من موت الناتو، ودعواتة إلى "جيش أوروبي مستقل" لم تكن سوىّ محاولات لسد الفراغ الذي خلّفته السياسة الأمريكية المُتقلبة، والتي بدت وكأنها تدفع العالم نحو"فوضى متعددة الأقطاب" قد تُشعل صراعات غير محسوبة العواقب، ويظهر لأول مره "ماكرون" في خطاب عاجل وصفة البعض بالمتوترهدد "الولايات المتحدة الأمريكية" وحذر؛ القارة الأوروبية من التهديد الروسي، وأعلن عن تفعيل الدفاع النووي الفرنسي.
وفي يصعّد في خطابة ضد روسيا ويضع أوروبا على حافة مواجهة مباشرة معها، ويعلن أن روسيا أصبحت تمثل تهديداً حقيقاً لفرنسا وأوروبا بأكملها، ويكشف عن قرارات خطيرة قد تغيّر موازين الصراع بالكامل، وزعم "ماكرون" أن روسيا تخطط بحلول عام 2030 لتعبئة ثلاثة ملايين جندي وإنتاج أربعة آلاف دبابة، مما يشكل تحدياً أمنياً خطيراً لأوروبا، إذا كان بإمكان دولة ما أن تغزو أوروبا المجاورة وتظل دون عقاب، فلا يمكن لأحد أن يكون متأكداً من أي شيئ، متواصلاً: ولقد بدأنا نقاشاً حول إستخدام الأسلحة النووية الفرنسية لحماية الإتحاد الأوروبي بأكمله.
تحديث الجيش الألماني وبداية التفكك الأمريكي الأوروبي
وفي ظلّ عصرٍ تتصدّع فيه اليقينيات الجيوسياسية، تبرز "ألمانيا" كفاعلٍ إستراتيجيٍ جديدٍ يُعيد تعريف دوره في عالمٍ مضطرب، فبعد عقودٍ من الإعتماد على المظلة الأمنية الأمريكية ضمن حلف الناتو، أطلقت برلين عام 2022 "مشروعاً تاريخياً لتحديث جيشها، مُخصصةً ميزانيةً غير مسبوقةٍ تصل إلى "100" مليار يورو، في خطوةٍ تُعتبر الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والآن وفي ظل المخاوف من سياسات "ترامب" المتقلبه الحكومة الألمانية تطالب بتحديث الجيش الألماني بقيمة 400 مليار يورو، وهذا يعني بداية التفكك الأوروبي الأمريكي، ولكن هذا التحوّل ليس مجرد رد فعلٍ على التهديدات الروسية في أوكرانيا، بل هو جزءٌ من "شرخٍ أعمق" في التحالف الأطلسي، بدأ يتسع مع صعود سياسات أمريكية تتّسم بالانعزالية والتقلّب وخاصةً تحت إدارة ترامب، فبينما كانت واشنطن تُعيد حساب إلتزاماتها تجاه أوروبا، مُشككةً في جدوىّ الناتو ومُفضلةً سياسة "الإنتصارات الفردية"، بدأت القارة العجوز تدرك أن الإعتماد على شريكٍ متقلبٍ قد يُعرّض أمنها للخطر.
خطة «زيلينسكي» للسلام مع روسيا والتأييد «التركي»
في ظل تصاعد وتيرة الحرب الأوكرانية وإمتداد تداعياتها العالمية، وفي ظل التحيز الواضح من"ترامب" للرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" أعلن الرئيس الأوكراني زيلينسكي "فولوديمير زيلينسكي" أمس "الجمعه" أن الطريق إلى السلام يبدأ بإجبار روسيا على "وقف هجماتها"، داعياً إلى "تهدئة عاجلة" في الجو والبحر عبر حظر إستخدام الصواريخ والطائرات المسيرة، وضمان حرية الملاحة في البحر الأسود، وجاءت تصريحاتة كرسالة واضحة لمجتمع الدولي لا مفاوضات حقيقية دون وقف إطلاق النار.
ومن جهه أخرىّ، أعلن الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" تأييده لهذه المبادرة، معتبراً إياها خطوة أساسية لـ "بناء جسور الثقة" بين روسيا وأوكرانيا، وتعزيز فرص تسريع وقف إطلاق النار، في حين أن موقف تركيا، بوصفها وسيطاً رئيسياً في الأزمة، يُسلط الضوء على محاولات إيجاد مخرجٍ سياسيٍ من الحرب التي أنهكت الإقتصاد العالمي وأعادت رسم خريطة التحالفات الدولية، لذا؛ يرىّ البعض وأبرزهم "أردوغان" الذي أبدىّ مدىّ واقعية هذه المقترحات في ظل تعنت الأطراف، وإنقسام المجتمع الدولي، وتصاعد المخاوف من تحول الصراع إلى حرب عالمية ثالثة.
وقال الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" يجب وقف إطلاق النار فوراً بين روسيا وأوكرانيا لزيادة الثقة بين الأطراف، وتوفير أرضية دبلوماسية "متينة" تجمع روسيا وأوكرانيا إلى طاولة المفاوضات، من أجل وقف الحرب بينهما، أكد"اردوغان"على أن تركيا تدعم إقتراح وقف الهجمات جواً وبحراً؛ لبناء الثقة بين روسيا وأوكرانيا وتحقيق وقف لإطلاق النار بأسرع وقت ممكن، وإستعدادها لإستضافة المفاوضات بينهما للوصول إلى سلام عادل ودائم، مؤكداً؛ تأييده لفكرة الرئيس الأوكراني" فولوديمير زيلينسكي" بشأن هدنة وصولاً إلى وقف لإطلاق النار الدائم بأسرع وقت ممكن، ووقف الهجمات الجوية والبحرية بوصفها إجراءً لبناء الثقة بين الطرفَيْن،
تبقى مقترحات الهدنة بين روسيا وأوكرانيا، رغم إلحاحيتها الإنسانية، محفوفةً بتحدياتٍ جسيمة تهدد بتحويلها إلى حبرٍ على ورق فالتجارب السابقة، ولاسيما؛ في غزة أثبتت أن أي تهدئةٍ دون ضمانات دولية مُلزمة، وآلية رقابة محايدة دون تحيزلطرف على آخر، ستكون جسراً هشاً فوق فوهة بركان، والدور التركي رغم أهميته، يحتاج إلى دعمٍ أوسع من المجتمع الدولي وخاصةً من القوىّ الفاعلة في الناتو ومجموعة الـ20، لتحويل الكلمات إلى إلتزامات ملموسة، حتى لا نشاهد نفس المشهد الذي يتم الآن من الإلحتلال الصهيوني بشأن تنفيذ بنود وقف إطلاق النار.
واشنطن وتل أبيب والفوضى المخزية
كل ما يأتي في مقالي ماهو إلا محاولة لفكّ شيفرة الصمت الدولي، وكشف كيف حوّلت الهيمنة الأمريكية الأمم المتحدة إلى مسرحٍ للمهزلة، بينما تئن فلسطين وشعبها تحت وطأة الإحتلال الصهيوني، وتُسحق إنسانية الجميع في طريقها، في عالمٍ يُرفع فيه شعار "القانون الدولي" كتميمةٍ للضمير الجمعي، تتحوّل الكلمات إلى سرابٍ حين يتعلق الأمر بفلسطين، فبينما تُدين الأمم المتحدة العدوان على أوكرانيا خلال ساعات، ويقف الفيتو الأمريكي" حاجزاً حديدياً أمام أي إدانة للإحتلال الإسرائيلي، حتى عندما تتحول غزة إلى ركامٍ تحت القصف، وحتى عندما تُزهق أرواح الألاف من الأطفال والنساء أمام عدسات العالم، فإنها الفوضى الأخلاقية في أبهىّ صورها.
ونظامٌ دوليٌّ يُدار بقواعدٍ مزدوجة، حيث تُصادر أمريكا حارسة النظام الليبرالي المزعوم، وصوت الضمير العالمي لصالح دعمٍ أعمىّ لآلة حربٍ تحتقر القانون الإنساني، وترتكب أبشع أنواع جرائم الحرب في تاريخ الحروب، أليس عاراً أن تُحاصر الشعوب بجرائم الحرب!؟، بينما تُكافأ إسرائيل بالمزيد من التمويل العسكري؟، أليس مهزلةً أن تُجبر دول العالم على الصمت خوفاً من عقوبات واشنطن، بينما تُنتهك إتفاقيات جنيف علناً؟ هذه ليست مجرد أزمة سياسية، بل هو"إنهيارٌ لشرعية النظام العالمي نفسه، حيث تُختزل العدالة في حسابات المصالح، وتتحول حقوق الإنسان إلى سلعةٍ تباع وتُشترى.
الخداع «الصهيوأمريكي» والتهديدات الترامبية تلقي في بحر غزة
ما إن تُعلن "إتفاقية وقف النار" في غزة حتى تتحول إلى مسرحيةٍ مكررةٍ من المماطلة والخداع، فبينما ترفع إسرائيل شعار "الحق في الدفاع عن النفس"، تُواصل توسيع المستوطنات، وتُعيق وصول المساعدات الإنسانية، وتُفرغ الإتفاقيات من مضمونها تحت حماية أمريكيةٍ صارخة، الإدارة الأمريكية، بدورها تتبارىّ في خطابٍ مزدوج!، تُدين العنف شكلياً بينما تُمرر مليارات الدولارات كدعمٍ عسكريٍ للإحتلال !، وكأن دماء الأطفال الفلسطينيين ثمنٌ مقبولٌ في حساباتها الجيوسياسية.
ولم تكن تصريحات "دونالد ترامب" الأخيرة التي هدد فيها سكان غزة بـ "الجحيم والموت" سوىّ حلقةً جديدةً في سلسلة الإبتزاز الأميركي، فبعد أن حوّل القضية الفلسطينية إلى ورقةٍ في صفقاتة الإنتخابية، يعود اليوم ليُذكّر العالم أن "صفقة القرن" المزعومة لم تكن سوىّ غطاءً لتصفية الحقوق، وأن منطق القوة لا يزال يُدير اللعبة، وفي هذا المشهد، يبدو القانون الدولي كأسيرٍ في زنزانة "الفيتو" الأمريكي، بينما تُختزل غزة إلى ساحةٍ لتجارب الأسلحة، وشعبٍ يُحاكم على جريرة البقاء فوق أرضه، فمتى يصحو الضمير العالمي من سُباته، ويعترف بأن السلام لا يُبنى على أشلاء الضحايا؟.
وختاماً
إنه وفي عالمٍ يُشبه مسرحاً للعبث، حيث تُختزل الشرعية الدولية إلى "فيتو أمريكي" يُزيّن جرائم الإحتلال الصهوني، وتُصادر إنسانية الفلسطيني تحت ذريعة "الأمن"، لم يعد السؤال؛ عن مدىّ إحترام القانون الدولي، بل عن مدىّ "إفلاس ضمير البشرية" فها هي الأمم المتحدة، التي تأسست لتحمي الضعفاء، تُحاصر غزة بصمتٍ يُشبه التواطؤ، بينما تُحول إسرائيل المعابر إلى سجون مفتوحة، والمساعدات الإنسانية إلى سلاح حرب وأداةٍ للإبتزاز،أما المجتمع الدولي فما عاد يملك إلا لغةً مزدوجةً إدانةٌ سريعةٌ لوهم أسمه "الإرهاب".
وصمتٌ مطبقٌ على إرهاب الدولة الذي يُجتث شعباً من جذوره، وحتى الإتفاقيات التي يُفترض أنها خطواتٌ للسلام، صارت حبراً على ورقٍ ممزق، تُناقَض بالإستيطان، وتُدفن تحت ركام البيوت المدمرة، الآن: وبينما تُعلن القوىّ العظمىّ حربها على "الفوضى"، ويجلس العالم ليتفرج على أكبر فوضىّ عرفها التاريخ، وفلسطين تُدفع إلى حافة الهاوية، والغرب يصفق لجلادها فهل نحتاج إلى كارثةٍ أكبر لنعترف أن النظام العالمي مات، وأن دماء الأطفال والنساء الفلسطينيين هي شاهدٌ على قبره؟، والدرس القاسي هنا ليس أن القانون الدولي عاجز، بل أن "الشرعية تُسرق حين تُختزل إلى لعبةٍ بين الأقوياء" ولكن التاريخ لا يرحم: فكما سقطت إمبراطورياتٌ ظنت نفسها فوق المحاسبة، سيأتي يومٌ تُحاكم فيه كل نظرةٍ صامتةٍ على جريمة العصر فهل ننتظر ذلك اليوم أم نصنعه اليوم؟.