مفاجأة أثرية في تركيا.. مكتبة يونانية رومانية محفوظة تكشف ملامح العلم القديم

في اكتشاف أثري وصف بالنادر والمذهل، تمكن علماء آثار من الكشف عن بقايا مكتبة يونانية رومانية يعود عمرها إلى نحو 2000 عام، وذلك في مدينة ستراتونيكيا القديمة، الواقعة جنوب غرب تركيا، في منطقة كانت تعرف قديمًا بكاريا.
ويعد هذا الاكتشاف نافذة جديدة على ماضٍ عريق، يكشف أبعاداً جديدة في الحياة الثقافية والمعمارية لإحدى أعظم المدن الرخامية في العصور الكلاسيكية.
وتُعرف مدينة ستراتونيكيا، التي تأسست خلال العصر الهلنستي، بلقب «مدينة المصارعين»، وقد كانت مركزًا ثقافيًا وتجاريًا مهمًا في تلك الحقبة.
وقد سميت المدينة على اسم «ستراتونيكي»، زوجة الملك السلوقي أنطيوخس الأول، وشهدت لاحقًا مراحل من السيطرة الرومانية، لكنها حافظت على طابعها وهويتها اليونانية في المعمار والتخطيط والنقوش.
العمل الأثري متواصل منذ 1977
بدأت أعمال الحفر في المدينة منذ العام 1977، ويقود الفريق الحالي من علماء الآثار البروفيسور الدكتور بلال سوجوت من جامعة باموكالي، الذي يشرف أيضا على التنقيبات في محمية لاجينا القريبة.
وخلال السنوات الخمس الأخيرة، ركّز الفريق على التنقيب في مبنى المكتبة تحديدًا، ليكتشف أقسامًا متكاملة منها تشير إلى أهميتها وحجمها الكبير في تلك الحقبة.
وقال سوجوت في تصريحاته لموقع صحيفة «Greek Reporter»: «نقوم بأعمال التنقيب في هذا المبنى منذ خمس سنوات، وقد اكتشفنا أقسامًا رئيسية، بما في ذلك المدخل الرئيسي، والرواق الجنوبي، والفناء المركزي، وقاعة القراءة، والغرف المجاورة، وتشير هذه الاكتشافات إلى وجود مكتبة ذات حجم وأهمية كبيرين».

تقاطع ثقافي بين العصرين اليوناني والروماني
وفقًا للباحثين، فقد بُنيت المكتبة أول مرة في العصر الهلنستي، أي قبل الميلاد بعدة قرون، ثم أُعيد تصميمها في العصر الروماني، وظلت مستخدمة حتى القرن الرابع الميلادي، ما يدل على امتدادها الزمني الواسع وتأثيرها البارز في المجتمع المحلي.
وتشير إحدى النقوش التي عثر عليها إلى أن مهندس المبنى أو بنّاءه الرئيس كان من مدينة أفسس، ما يدل على أن المكتبة لم تكن عملاً عاديًا، بل مشروعًا ثقافيًا ضخمًا شارك فيه أمهر البنّائين في تلك الفترة.
وتقع المكتبة عند ملتقى أربعة شوارع رئيسية، ما يعزز من فرضية أنها كانت مركزًا فكريًا وحيويًا للحياة العامة في المدينة، كما أن الفسيفساء المكتشفة حديثًا تدل على أنها ظلت محورًا للنشاط الثقافي حتى بعد مرور قرون على إنشائها.
آثار الزلزال وملامح باقية
ولم تخلُ المدينة من الكوارث الطبيعية، إذ ضرب زلزالٌ عنيفٌ المنطقةَ في أوائل القرن السابع الميلادي، وتسبب في تدمير العديد من مباني المدينة، ومن ضمنها المكتبة.
إلا أن المفاجأة كانت في بقاء أجزاء كبيرة من المكتبة قائمة رغم الدمار، ما مكّن العلماء من إعادة بناء مخططها الكامل، وتتبع التعديلات والإصلاحات التي شهدتها عبر القرون.
ويُعتقد أن هذا التصميم الفريد للطابق الأرضي لا يتشابه مع أي مكتبة أخرى معروفة في الأناضول، وقد يكون ألهم مكتبات لاحقة في شمال أفريقيا، وهو ما يشير إلى وجود روابط ثقافية ومعمارية عابرة للبحار بين حضارات المتوسط.
رسالة حضارية عابرة للزمن
الجدير بالذكر أن مدينة ستراتونيكيا كانت تضم العديد من المرافق العامة المميزة، مثل المسارح والمعابد والساحات، وكانت تمتاز باستخدام الرخام الأبيض في أغلب منشآتها، وهو ما منحها لقب «أعظم مدينة رخامية في الأناضول»، وفق توصيف المؤرخين.
ويعتبر اكتشاف المكتبة بمثابة إضافة نوعية للأبحاث المعمارية والثقافية في منطقة الأناضول، التي كانت مسرحا لتلاقي حضارات متعددة عبر التاريخ، كما أن الكشف عن مبنى علمي وثقافي بهذا الحجم يسلط الضوء على أهمية التعليم والمعرفة في الحياة العامة بالمدن القديمة.
ومع استمرار التنقيب في الموقع، يأمل العلماء في العثور على مزيد من النقوش أو القطع الأثرية التي قد تُلقي الضوء على نوع الكتب التي كانت تُحتفظ بها المكتبة، أو طبيعة الأنشطة التي كانت تُمارس فيها، وهو ما قد يغير نظرتنا إلى الحياة الثقافية في تلك الحقب التاريخية.